تعد إنتفاضة تشرين ٢٠١٩، التي أحرص على تسميتها ثورة غير مكتملة الشروط، نظرا الى إستمرارها رافعة رؤية بديلة لبنية النظام وتركيبته فضلا عن عوامل أخرى، أهم ظاهرة سياسية وإجتماعية منذ ٢٠٠٣. ولا تزال عوامل اندلاعها تزداد تفاعلا بوتيرة لا تنقطع، بغض النظر عن تصاعد وتراجع زخمها وأنشطتها. ولم تتمكن الاجراءات الحكومية المبتسرة من إقناع المنتفضين بأن ثمة حلا جذريا يستجيب لمطالبهم، كما عجزت كل حيل طغمة الحكم عن الحد منها والالتفاف عليها: عجز الإيغال في قتل المنتفضين وعجز الخطف والتشويه والتخوين عن وضع نهاية لها. فالاستعداد للتضحية بشجاعة وسخاء أصبح خاصية ملازمة لها، بل ان الاقدام وعدم التراجع يعتبران من خصائصها الأساسية. كما أن الأساليب التي إتبعتها أحزاب الفساد بهدف الانقضاض عليها باءت بالفشل، وباتت محاولات إختراق ساحات الاحتجاجات مكشوفة، حتى ان المنتفضين يسخرون من خيم الأحزاب المتنفذة التي نصبت بين خيمهم.
وعجزت ذهنية طغمة الحكم المأزومة عن فهم أبعاد الانتفاضة، وعن إدراك فواعلها كانتفاضة شعبية تحمل هموما وطنية كبيرة، لا يمكن للقتل المنظم وإرهاب العصابات المسلحة والتخويف والتخوين والحيل والالتفافات وشراء الضمائر والتلويح بالمناصب والاندساس والاختراق وتشكيل الأحزاب باسم الانتفاضة .. هذه الأساليب كلها وما سيبتكره المتنفذون وتقترفه ايادههم من جرائم تضاف الى كل آثامهم السابقة، لا يمكن ان توقف أستمرار الاحتجاجات، وتحد من تواصلها.
ان الوعي بالتغيير كمفهوم واضح قد ترسخ في أذهان المنتفضين، ضمن رؤية متكاملة للخلاص من الطائفية السياسية والمحاصصة والفساد وإنفلات السلاح. وان التغيير هو اهم مطلب للانتفاضة، والمقصود به تغيير نهج النظام والشخوص المتنفذة فيه والمنتفعة منه. فهذا المطلب الرئيسي غير قابل للمساومة والاجتزاء، وان نظرة سريعة الى الأوضاع السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية القائمة، تقودنا الى الاقتناع بأن الأزمة وعواملها باقية تتفاعل وتزيد القناعة بعدم إستجابة طغمة الحكم لمطالب المنتفضين.
لذا لا ينتظر المنتفضون أمكانية تحقيق تغيير سياسي في ظل تسلط طغمة حكم لا تكترث إلا لمصالحها الخاصة، ولا امكانية اقتلاع الفساد ، وهو – كما يتكرر - الاقتصاد السياسي لنظام المحاصصة!
مرّ عام ولا تغيير جديا حصل، ولا خدمات قدمت، ولا أوضاع معيشة تحسنت. اما العدالة الاجتماعية التي هي جوهر الانتفاضة ومحتواها، فقد غيبتها سعة ثراء طغمة الحكم غير المشروع، الذي أنتج فجوة تتسع يوما بعد اخر بين طغمة الفساد المتخمة جراء نهب الأموال العامة، وبين عامة الشعب التي تعاني من تفاوت هائل في بعده ويزاد اتساعا يوما بعد اخر.
ان نظرة طغمة الحكم تبقى قاصرة في التعامل مع الانتفاضة، ولن تفهمها كواقعـة اجتماعيـة مهمة، وظاهرة سياسية كبيرة ذات اثار على جوانب ونواحي متعددة، تاريخية واقتصـادية وثقافيـة.
في حين ان الانتفاضة كظـاهرة سياسية اجتماعية تتأصل في عراقنا، وستستمر ما دام الجور والظلم والحرمان يطغي، حتى المآل النهائي المتمثل في إزاحة طغمة الحكم، مهما تمترست خلف عنادها وأوصدت خلفها الأبواب في وجه رياح التغيير العاتية.