منذ لحظة 2003، والماضي العراقي يحتضرُ دون أن يبلغ الموت، ثم ازداد احتضاراً بتراكم الاعتلالات التي أتت بها الأسلمة السياسية الفاسدة، فيما ظلّ المستقبل مستعصياً على الولادة (بالاستعارة من غرامشي).
لكن هذا الاستعصاء أخذ يتجه تدريجياً نحو الحسم، بالتزامن مع تصاعد الوعي الاحتجاجي وحركاته المتتالية تبعاً لبزوغ هيمنة ثقافية مضادة لايديولوجيا السلطة، وصولاً إلى الذروة في تشرين 2019 في بغداد ومحافظات الجنوب والفرات الأوسط، حينما بانت ملامح المستقبل المضببة أكثر من أي وقت مضى، دون أن تنجلي صورته المؤكدة بعد.
فقد تفاعلت العاطفة الوطنية (نريد وطن) مع الوعي الطبقي (نازل آخذ حقي) على نحو شديد الوضوح والصرامة يفوق سابقاته، لإنتاج معادلة ثورية سلمية تريد استرداد الزمن الاجتماعي بوصفه حاضنة مزهرة للمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والكرامة الفردية، لا تابوتاً لتحنيط الفساد والحرمان والطائفية.
خلال عام كامل مضى، اتضحت تطورات شديدة الكثافة والدلالة على مسرح الأحداث دون أن تطال بتأثيرها بنية النظام السياسي ووظيفته بشكل جذري. فقد ظل المد الثوري التشريني ناقصاً بحكم افتقاره لوحدة الرؤية وفضيلة التنظيم، فيما تطورت وازدهرت أساليب الثورة المضادة بشقيها الترهيبي والترغيبي، فضلاً عن انطواء مجتمعي على الذات بتأثير الوباء الكوروني ونزعة العدمية السياسية التي تؤثّم الضحية ولا تبالي بالجلاد.
هذا العام شهد استماتة المنظومة السياسية الحاكمة للاحتفاظ المغلق والمطلق بكل غنائمها وبناها ووظائفها دونما تقديم أي تنازل بالحد الأدنى للجمهور الشبابي المنتفض. وإذا كان تشكيل الحكومة الحالية في 6 أيار/ مايس 2020 (أي بعد حوالي ستة شهور من استقالة الحكومة السابقة تحت ضغط الثورة)، قد فُهم منه في البداية على أنه "تنازل" جزئي من المنظومة أو رغبة مؤقتة منها على الأقل بعقد "صفقة" مع قوى التغيير المعتصمة في الميادين العامة، والبعض ذهب إلى تسميتها رغبوياً بـ"حكومة تشرين"، فإن مرور بضعة أسابيع من عمر هذا الحكومة أوضح بدرجة معينة (ازدادات وضوحاً مع تقدم الوقت) أن الأمر ليس كذلك.
فخيار "المواجهة" مع مافيات الفساد وجماعات ما دون الدولة، الذي كان منتظراً من حكومة تشكلت بتأثير الحدث التشريني الهائل، بوصفه خياراً عقلانياً مباغتاً بالرغم مما كان سيرافقه من مخاطر، سرعان ما تم العزوف عنه منذ الأيام الأولى، واستبداله بسياسة الاحتواء الفاشلة بتأثير افتتان صانع القرار الحكومي بعدة أوهام سياسية أساسية منها: وهم التحكم بالأحداث، ووهم الفهم والبصيرة، ووهم امتلاك الحكمة، وميكانزم إحلال الوعود اللفظية المجانية محل الأفعال الملموسة المكلفة. وهذا كان سيقود بالضرورة إلى فقدان المبادرة بوجه منظومة السلطة التي نجحت باحتواء الحكومة وإخراجها من معادلة تشرين 2019 وإدخالها في معادلة جديدة وهمية تحمل عنوان تشرين فقط دون جوهره.
إن كل هذا يعني ضمناً أن الحكومة (دون أن تخلو من حسن نوايا ومقاصد طيبة)، باتت جزءاً من الثورة المضادة من خلال مساعيها الحثيثة إلى احتواء الحراك الشبابي عبر جذب بعض رموزه ليكونوا جزءاً وظيفياً ضمن أروقتها، ما أدى إلى تفكيك تشرين –بدرجة معينة- وتحويله إلى تشرينات مشتتة قابلة للمساومة والابتزاز والبيع في المزاد السياسي. وكل ذلك يتم تسويقه عبر الترويج لـ"ضرورة" الانتخابات المبكرة، التي يعرف أي مختص بسوسيولوجيا الانتخابات أن في أوضاع الانتقال الثوري غير المحسومة أو المُجهَضة بحراب الثورة المضادة، تبقى لقوى النظام القديم الأرجحية في استثمار الانتخابات -مهما كانت قوانينها وبيئتها- لإعادة إنتاج "شرعية" سياسية هشة تديم بها سلطتها لسنوات أخرى غير محددة.
يضاف إلى كل ذلك ما شهدناه من تضامن غير مسبوق بين النخب السياسية الحاكمة خلال عام كامل، لاختراق الحراك الشبابي واحتوائه وتفتيته، عبر الاغتيال والخطف والترويع تارة، وعبر الإغراءات والتمويه لاجتذابه إلى تنظيمات سياسية "مستجدة" مستنسلة من رحم تلك النخب تارة أخرى. وكل ذلك كان يجري أيضاً تحت عنوان الانتخابات المبكرة التي أصبحت الوسيلة الأكثر "ضماناً" للاحتفاظ الكامل بالحكم والسلطة دون أي تنازلات، رغم أنها (أي الانتخابات) كانت مطلباً تشرينياً – وليس سلطوياً- في الأصل، في لحظة ثورية "مثالية" انتقالية بين القديم والجديد، لم يكن لـ"الجديد" فيها جسم سياسي منظم بعد بمواجهة ترسانة "القديم" المتخمة بأسلحة الاحتفاظ بالسلطة.
وهكذا يبدو الوضع العراقي الحالي، وبتبسيط شديد، منقسماً بين ثلاثة توجهات رئيسة قابلة للتفرع والتشعب عند التحليل:
1- التوجه الماضوي: أي المنظومة الحاكمة المتضامنة بكل أدواتها السلطوية: الرسمية والموازية، المستعدة لممارسة العنف السياسي والإغراء المالي للاحتفاظ الاستئثاري التام بكل مفاصل الحكم دون أي تقاسم ولو محدود مع قوى التغيير. وهذا التوجه يبدو غارقاً في عجزٍ عميق، إدراكياً أو سلوكياً، عن مقاربة الانتقال السياسي الجذري الذي تسير نحوه الأحداث.
2- التوجه الآني: أي مساعي الحكومة الحالية للتحول إلى قطب سياسي- انتخابي عبر مفاوضاتها للحصول على دعم جزء من الشارع التشريني دون تقديم أي مكاسب حقيقية للقاعدة الاجتماعية التشرينية العريضة. وهي بذلك كمن يحرث في الماء متوهماً أنه يقف على أرض صلبة.
3- التوجه المستقبلي: أي قوى التغيير التي امتلكت الوعي لذاتها for itself، بمعنى أنها القوى التي بلغت مرحلة القطيعة النفسية والأخلاقية مع الماضي وتوجهاته السلطوية والحكومية، وصارت تجد في السلطة كينونة مناوئة تستحق المواجهة. ويشكل الشباب التشريني جزءاً أساسياً من هذا التوجه، بل هو عماده وقاعدته البشرية الأساسية المهيئة للتضحية من أجل استعادة المستقبل المخطوف.
إن التحشيد الاحتجاجي الذي يجري الإعداد له ليوم 25 تشرين الأول القادم، لا يمكن معرفة بُنيته التكوينية أو التنبؤ بزخمه ومآلاته بدقة في اللحظة الحالية، حتى لمن سيشارك به، أو لمن قد يقمعه، أو لمن يراقبه. فبعد مرور عام كامل من التنازع على مِلكية تشرين بين الشباب الثوري أنفسهم، ومن توظيف كل أساليب الثورة المضادة لوأد المثال التشريني، ومن إخفاقات دولتية كبرى متراكمة في الوضع الاقتصادي والصحي والخدماتي والسيادي، ومن تدخلات خارجية فظة في تناقضاتها وعواقبها، تبدو عوامل الصراع لامتلاك الشرعية السياسية وملء الفراغ السياسي المتزايد، قد بلغت أشدَّها دون أن يعني ذلك وضوحها أو إمكانية التنبؤ بمساراتها في المدى القصير.
إلا أنه يمكن القول إن هذا الصراع سيتخذ مضامين حادة مضاعفة في ضوء غياب حد أدنى من إمكانية التواصل النفسي والاجتماعي والسياسي بين التوجهين الماضوي والمستقبلي، إذ تجلس السلطة متربعة على جبل متصدع من الخراب والرثاثة والكوارث، تمارس الإنكار نحو حقيقة أن عقارب الزمن الاجتماعي لهذه البلاد قد تحركت إلى الأمام دون رجعة، وأن توقيتاتها السكونية قد اختلفت بشدة وإلى الأبد عن توقيتات المجتمع المتحركة.
وهذا يعني أننا ذاهبون من جديد –قريباً أو لاحقاً- إلى تجديد المواجهة بين الماضي المحتضر والمستقبل المتعسر الولادة. وكل تجديد لهذه المواجهة، بفعل انغلاق المنظومة السياسية على الإصلاح، واحتكامها إلى وسيلتها الأخيرة المتبقية أي العنف الدموي، بالتزامن مع نضوب الريع المنهوب، يعني أن خيارات راديكالية قد تتصدر المشهد القادم.
فـ"الجديد" المستعصي لن يموت، إلا أن ولادته تزداد عسراً وألماً وعنفاً كلما استمات "القديم" في الامتناع عن تسليم جثته –ولو بأجزاء- لمتحف التاريخ.