ما ان مرت ساعات على انقضاء يوم ٢٥ /١٠/٢٠٢٠، وانتهاء الفعاليات الاحتجاجية بمناسبة مرور عام على انتفاضة تشرين الشعبية الباسلة، حتى تواتر إصدار البيانات حول رفع الخيم ومغادرة ساحة التحرير. وفيما اتفقت هذه البيانات في شأن الانسحاب، فأنها إختلفت حول دوافع ذلك. فقد ارجعت السبب الى عوامل شتى لا تجمعها رؤية موحدة، من بينها رفع الغطاء عن المندسين وكشفهم للسلطات الأمنية بهدف إعتقالهم، وقطع الطريق أمام إختراقات الأحزاب الفاسدة وأزلامها التي أساءت للانتفاضة وأهدافها، وعزل دعاة التطرف وتصعيد العنف، واتاحة الفرصة للتنظيمات السياسية التي تشكلت عبر الانتفاضة لتشترك في الإنتخابات وتصل الى مجلس النواب، وتوفير فرصة لإعادة تنظيم صفوف المنتفضين، والاستعداد لانتفاضة جديدة بحيوية أكثر، فضلا عن آراء أخرى.
وعند رصد وتحليل البيانات يمكن ملاحظة التوجهات المتباينة والاختلافات الواضحة بشأن دواعيها، وهي تنطلق من صراع المصالح الذي لا يمكن اخفاؤه، بين من إنحاز للانتفاضة وأهدافها الوطنية وبين الطغمة الفاسدة وامتداداتها، التي ترى في الانتفاضة واستمرار وهجها ومواصلة أنشطتها، محاصرة لها وتمهيدا للانقضاض عليها.
وإذ لا يتسع المجال هنا لمناقشة تفصيلية للمصالح المتقابلة والمتناقضة، يمكن تأكيد خلاصة تجارب إحتجاجات الشعوب، التي برهنت على أن الاحتجاج فعل سياسي مؤثر، لا ينطلق من فراغ ولا يسير في موجه واحدة مستقيمة، كما ان أساليبه متعددة، وأشكاله متنوعه، وان الانتفاضة هي مقدمة للثورة، كفعل تستجيب القوى الشعبية له بقدر ما يتبنى من مطالب واهداف عامة.
كما ان أمر الاحتجاج وإندلاعه مرهون بلحظة لا يمكن التنبؤ بها، هي نتيجة تفاعل الظروف والعوامل والحاجات مع الجزع والسخط والرفض والرغبة في التغيير واليأس فضلا عن فواعل أخرى. وبهذا المعنى فان الانتفاضات الشعبية لا تندلع بأوامر إدارية ولا تتوقف وفق سياقات أرادوية.
لم تخرج انتفاضة تشرين الباسلة، وهي الثورة الشعبية غير مكتملة الشروط، عن تجارب الشعب الذي سجل التاريخ إنتفاضاته وإندفاعاته للتغيير ولحفظ الكرامة. فهي إنطلقت قبل عام بقوة وحيوية وعنفوان جبار، في مواجهة جسورة لطغمة الحكم المستبدة، ولم تتراجع أمام القمع المنظم والقتل الممنهج، مع ان التضحيات بلغت رقما هائلا هو الأكبر على الاطلاق بين ما قدمته الانتفاضات في التاريخ المعاصر.
انها إنتفاضة حملت هموم وطن، ونهض بها جيل من الشباب الواعي، ولا يمكن تصور نهاية لها لا ترتبط بالنصر. وقياس النصر هنا ليس رقميا، بل هو نصر الوعي بوجوب رفض الطائفية السياسية والمحاصصة والفساد، ورفع موضوعة المواطنة كقيمة عليا واساس لبناء نظام سياسي جديد، يحقق العدل والانصاف والعيش الكريم.
ان للوعي بالتغيير وحراك الشعب القادم زمنه الاجتماعي وقوانينه الخاصة، وهو زمن لا يدركه من يقيس الوقت وفق ساعته التي تحركها قوانين الفيزياء!