من منا سمع ترنيمات فيروز الجبلية وطربياتها البلداتية وموشحاتها الاندلسية ولم تؤثر فيه رقتها فتشده إليها بصوتها العذب الشجي؟ ومن منا لم يتأمل معاني كلمات أغانيها فيعرف حقاً وصدقاً أن في لغتنا العربية الفصيحة والمحكية تكتنز لالئ ودرراً وجواهر ؟ ومن منا لم يجد في نغمات الحنجرة الملائكية سلوته لامساً فيها شدو الطير وحفيف الشجر وسمو الجبل وكبر البحر وخرير النهر وزقزقة العصفور وهسيس الورد؟
إنها فيروز التي في صوتها تجتمع النغمة بالهمسة واللحن المترنم باللوعة الشفيفة ويلتقي الوئام بالصفاء، والقناعة بالرضا المتأمل، ويتمازج الحنين والشجن بالمحبة والأمل. وليس في ذلك التأثير غرابة لأنه صدى طبيعي لعفوية حقيقية وموهبة أصيلة، لها من الوقع ما لا يماثله وقع شيء آخر، فهو يمس الدواخل مثلما يلامس الخوارج متسامياً بالروح متعالياً بها على ضغائن الواقع ومنغصاته. وبسبب ذلك كله صارت للصوت الفيروزي مهابة خاصة ومكانة أثيرة في قلوب الناس لا يماثلها أي لون كما لا يستطيع أن ينافسها عليها فنان أو زعيم أو عالم أو مفكر او اديب أو رئيس او قائد.
وفيروز المطربة التي تمتلك الإصالة، والإنسانة المكتنزة بالرقة التي عرفت المواطنة حباً عميقاً لبلد جريح في سلمه وحربه فشاركته سراءه وضراءه حتى صارت هي نفسها وطناً يحتضن الجميع ورمزاً روحياً لكل القيم والمبادئ وأيقونة ملائكية عركتها الشدائد والمصاعب فما لانت ولا تنازلت فكانت صوتاً هو في كل الظروف تاريخ يمتد الى الحاضر ويتجه صوب المستقبل القادم الذي لا فرق في أن ينتظر الأجيال أو أن الأجيال تنتظره.
ولأن تغدو فيروز رمزاً وطنيا رسمياً بأعلى الأعراف الدبلوماسية بدءاً بتنويطها وتقليدها بأرفع الأنواط والأوسمة من لدن مقامات ومؤسسات دولية عليا الى أن يأومها كبار المشاهير ويحج الى دارتها الرؤساء وآخرها زيارة الرئيس الفرنسي الحالي الذي جعل من بيتها عتبة لبنان، يبدأ منها زيارة البلد الحبيب الى نفوس كل العرب وغير العرب كما هي فيروز.
ولا غرابة في الأمر لما احتلته فيروز في القلوب من منزلة بلا شعارات أو واسطات وانما هي محبة روحية صادقة نابعة من صدق الفن الفيروزي، حققها سحر صوتها الملائكي الذي ما زال يطرب على مر السنين بل العقود؛ فتتفاعل معه أفئدة الملايين من العرب وغير العرب.
ولم يكن مشوار فيروز اعتيادياً وهي التي ظهرت بوادر موهبتها وبان احترافها منذ سن صغيرة، مواصلة مشوارها الفني كأشهر الأصوات الطربية العربية والعالمية، مُنشِدة للإنسان والأرض والطفولة والطبيعة بما يقارب الثماني مئة أغنية ومعها أوبريتات ومسرحيات مثل بياع الخواتيم وصح النوم وميس الريم وكذلك أفلام سينمائية مثل سفر برلك وبنت الحارس وبرامج متلفزة وغيرها.
وليست الألحان هي ما يميز الأغنية الفيروزية حسب؛ بل أيضاً قوة معانيها التي تشد النفوس الى الأرض صادحة للوطن لبنان وللوطن الكبير الممتد اريحياً مستفزاً خرائط الكون من الشام لبغدان وفي مقدمته فلسطين قضية العرب المصيرية الأولى.
ولا فرق في أن تترنم فيروز بالكلمات الشعبية أو الفصيحة، فالشعر في صوتها واحد فصيحا كان ام شعبيا كما ان جمال القصيدة واحد، غنائية كانت القصيدة ام مسرحية. وهل تقل قوة القصيدة الشعبية عند فيروز مثل القدس العتيقة ( مريت بالشوارع/ شوارع القدس العتيقة/ قدام الدكاكين البقيت من فلسطين/ حكينا سوى الخبرية/ وعطيوني مزهرية) عن القصيدة الفصيحة مثل سيف فليشهر( سيف فليشهر ولتصدع أبواق تصدع/ الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع/ أنا لا انساك فلسطين ويشد يشد بي البعد)
واليوم إذ يتجاوز تشريننا الأول وتشرين البلد الجميل لبناننا وثورتاهما المتغلغل فيهما النَفَس الفيروزي النبيل؛ فإننا نستقبل تشريناً آخر مستبشرين به هو الميلاد الفيروزي الذي نعلن عبره غضبنا الساطع ممتطين جياد الرهبة عزماً أن نهزم وجه القوة، فالوطن لنا والثورة ديدننا وبإيدينا نعيد بهاء الماضي التليد لسومر وأكد واشور وهو يتعالق ببهاء بغداد الصامدة أبد الدهر وسحر لبنان الآسر بمجد ثورات خالدة: ثورة جبل لبنان في تشرين بشامون وثورة المليون شهيد في غرة تشرين 1954 وانتفاضة العراقيين التشرينية في 1952 الابنة الشرعية البارة لثورة العراق الكبرى في حزيران 1920 والأم الرؤوم لثورة تموز المجيدة عام 1958 ثم تشرين العبور؛ عبور الجيوش العربية الظافر عام 1973 وتحطيم خط بادليف ثاني خط دفاعي أسطوري بعد خط ماجينو ليطفو فقاعة فوق مياه خراطيم الافيال العربية، مؤمنين أن السلام على بلادنا آت مهما تلبدت السماء بالغيوم ومهما تعاونت خفافيش الشر على إبقائنا في الظلام، وأن عزمنا سيولد منه نور يبدد العتمة وينير دروب الزمان، فيظللنا بالأفياء والمنى، مشيعاً الحب والحنان ومقرباً المسافات بيننا وقد تلاقت قلوبنا من جديد في وطن واحد يلمنا، ليس فيه من هو شاذ أو عاق.
إنه فردوس نرسمه وآذاننا تطرب بما يأتي به الصوت الفيروزي من سحر وجمال وتفاؤل بعالم جميل نحلم به قادماً إلينا وليس لنا سوى أن نفتح أذرعنا ونستقبله بكل إخلاص ونقاء مزيلين عن كاهلنا الأحقاد وعن أيدينا الأصفاد مدارين جراحنا غير متلتفتين الى الوراء، نسيانا لماض الئيم وتجاوزاً لحاضر سقيم.
وما نستذكره في يوم الميلاد الفيروزي في 21 تشرين الثاني من كل عام هو استلهام العفوية والمحبة والجمال كي ترى أعيننا جمال الدنيا وكيف أنها أرقى من أن نملأها بالأحقاد والضغائن والنكبات. والحياة تحتاج منا أن نفهمها وإذا فهمناها عرفنا أن الخير فيها دائماً يصارع الشر لكن الغلبة تتفاوت بمقدار معرفتنا لخيرها وشرها.
ولا عجب إذا قلنا إن في أغنية فيروز (وطن صغير ) تختصر هذه المعطيات كلها، فالحياة ليست أكثر من ( قهوة عالمفرق / في موقدة وفي نار) والباقي ( نفرشها بالأسرار) وصدفة وعلى غرة من الزمان( جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار
/ قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار)
لكن ليس لمن سرق المشوار أن يظل حراً طليقاً لأن الزمان لن يتركه وسيقتص منه حتماً( يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر/ الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر) فينتهي السارق بالذواء بينما يستعيد المسروق حقه، والوطن وحده هو الخالد للابد ( تخلص الدنيي و ما في غيرك يا وطني) ويظل وطننا في اعيننا طفلاً جميلاً، نعتني به فنداويه إذا مرض، ونُدفئه إذا برد، ونهدئه إذا غضب ونفرحه إذا حزن( يا وطني أه بتظلك طفل زغير
متل السهم الراجع من سفر الزمان)
وبخلاف ذلك الشعور؛ فإننا لن نجد وطنا آخر نداريه ونتدارى فيه ( قطعت الشوارع ما ضحكلي إنسان / كل أصحابي كبروا و أتغير اللي كان) وأي وطن نستبدل به وطننا وله أن يخلد أو أن يظل طفلا ( صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان)
فما أبهاك يا وطناً عريقاً في اسمك وقلعة في حدك وفردوساً في عمقك، جمالك ذوق وإبداع وخيرك عميم، مشاع وهذا ما سيكون بإذن الله.