جهتان تتوليان مهمة تدمير الاقتصاد العراقي، هما طغمة الفساد من جهة وتلامذة المدرسة الليبرالية المتوحشة من جهة اخرى. وكأن بينهما تحالفا غير معلن، وعرى علاقات متينة مباشرة وغير مباشرة.
طغمة الفساد التي تربعت منذ التغيير عام ٢٠٠٣ على مواقع مهمة في السلطة السياسية، تركز نشاطها في نهب المال العام بمختلف الطرق والأساليب، ورهن الاقتصاد العراقي للعامل الخارجي، والاجهاز على قدراته بعد فتح أسواقه لتكون مكبات للبضائع الأجنبية، وتصفية أي إمكانات للنهوض الصناعي والزراعي. وبعد ان نفذت الدور المناط بها، بجعل العراق تابعا ومستوردا غير منتج، وحتى عاجزا عن تسديد مستحقات منتسبي الدولة، في سابقة خطيرة لم يشهد مثلها تاريخ العراق المعاصر.. جاء اليوم اتباع "الليبرالية المتوحشة" للانقضاض على ما لم تصل اليه ايادي "طغمة الفساد".
وكما لا يتطلب الامر كثيرا من التفكير، نظرا لسعة المعطيات ووفرتها للبرهنة على ارتباط الأخيرة بالمصالح الخارجية، كذلك لا موجب للكثير من العناء كي نكتشف المصالح التي يسعى تلاميذ " الليبرالية المتوحشة" لطمأنتها، وهي مصالح الرأسمال المالي الأجنبي. فنظرة متفحصة وسريعة للورقة البيضاء تُظهر وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واشتراطاتهما واضحة، لا يخفيها الانشاء الذي غطى صفحاتها.
وإذ يتعذر الدخول هنا في تفاصيل "الورقة البيضاء"، فلا بد من الإشارة الى خطر الورقة الأساسي على الاقتصاد الوطني، وآثارها الكارثية على الوضع المعيشي لمحدودي الدخل والمهمشين، والاعباء الحياتية التي حاول كاتبو الورقة تمريرها عبر الصياغات الخبيثة، والجمل الملتبسة، والعبارات الفضفاضة، والكلمات الملساء، وباستخدام كل دهاء دهاقنة الالتفاف على مصالح الشعب، لشق الطريق امام تحطيم المتحطم، عبر ترسيخ تبعية الاقتصاد العراقي الى الشركات العابرة للجنسية، وعلى حساب الطبقات الفقيرة والمهمشة.
لم تبحث الورقة على سبيل المثال في بناء صناعة وطنية حديثة، ولا في تطوير أساليب الزراعة واستخدام التكنولوجيا لزيادة الانتاجية وزيادة خصوبة الأرض، او الاستخدام الأمثل للمياه، او بناء مراكز البحث والتطوير الصناعي والزراعي. لا شيء ابدا من هذا القبيل، بل كل ما سعت إليه الورقة هو الالتفاف على الباب الثاني من الدستور، الذي شدد على "الضمانات الاجتماعية"، فراوغت الورقة لتسميها "الرعاية الاجتماعية"، واستخدمت كلمة "التأمين" بدلا عن "الضمان"، والفرق في المردود الاجتماعي واضح بين المصطلحين.
وفي اشارتها الى "صعوبة توفير الرواتب لأكثر من ستّة ملايين موظّف ومتقاعد" يمكن ان نقرأ وراء ذلك فكرة التسريح من العمل، وهذا ما سارت عليه الأنظمة التي نفذت شروط البنك الدولي ووصفة صندوق النقد الدولي.
وجاءت الورقة واضحة في موضوع خفض الأجور والرواتب من ٢٥ الى ١٢.٥في المائة ، وخفض الدعم الماليّ للشركات المملوكة للدولة بنسبة ٣٠ في المائة لثلاثة أعوام، وتخفيض إجمالي الدعم الحكوميّ من ١٣ إلى ٥ في المائة لثلاث سنوات.
غير أن ما يثير الانتباه والشكوك في الوقت نفسه، ان الورقة لم تقترب من ممتلكات الفاسدين وملفاتهم، كما انها لم تتناول سلم الرواتب من جانب تحقيق العدالة، نظرا للفوارق الهائلة بين اعلى واقل راتب.
ان اقل ما يقال في ورقة تتحدث مرة عن دور للدولة، ومرة عن أهمية تجاوز هذا الدور، هو أنها ورقة مرتبكة. وان أي ورقة عن بلد محطم، لا تكون "التنمية المستدامة" احد اهم عناوينها، لا بد ان يثور الكثير من الشكوك حول جديتها!