إن الأصل في مسألة الحرية هو "الإتاحة" وليس "التقييد". وبهذا المعنى الواسع فإن "تنظيم" الحريات -وليس تقييدها- في بنود دستورية وقانونية هو إتاحةٌ لها وتعميق لممارساتها وآلياتها، وإثراء لمضامينها الأخلاقية والتنموية، وكبح مشرعن لأي ممارسات شعبوية أو دولتية تقيدها أو تنوي تقييدها.
وبالتالي فإن بنود العقوبة في أي قانون له مساس بالحريات، يجب أن تشمل الأطراف المعنية جميعاً: الدولة والجماعات والفرد؛ مع التوسع في سن التشريعات التي تلجم النزعة العنفية والتغولية للدولة بوصفها التنظيم المؤسساتي الأكثر خطورة واحتمالاً من الناحيتين العملية والأخلاقية لخرق مبدأ الحريات وانتهاكه.
ودون الخوض في تحليل قانوني أكاديمي - لستُ مختصاً به-، أقول أن بنود أي قانون ليست إلا النهاية البلاغية المعلنة لسلسلة طويلة غاطسة ومعقدة من مصالح اقتصادية وسياسية وأيديولوجية ونفسية وبيولوجية تفاعلت جدلياً عبر الزمان والمكان لسنّ تلك البنود الحامية على نحو مباشر أو غير مباشر لمصالح المشرّع. والسرمدية الظاهرية التي تبدو عليها القوانين في لحظة التشريع، لا يراد بها إلا تأبيد السلطة القائمة وتخليدها بوصفها الاحتمال "الوحيد" المتاح لتنظيم حياة الناس.
ويبدو أن مسودة قانون جرائم المعلوماتية المطروح حالياً للمناقشة في مجلس النواب، تتغافل عن كل هذه البديهيات المتأصلة في فلسفة الحرية وفقه القانون، فضلاً عن كونها ترجمة مباشرة لإرادة ومصالح المنظومة الحاكمة دون أي حد أدنى من الاعتبار لعلوية الدستور (المادة 38) ولنسبيات الوضع العراقي المتأزم والسائر نحو التفجّر.
فمن زاوية النطاق العقابي الذي يشمله التشريع، تقتصر مسودة القانون هذه على تجريم الأفراد دون غيرهم فيما يخص استخدامهم "غير القانوني" للحاسوب والانترنت، متجاهلة أي انتهاكات مماثلة محتملة يمكن أن ترتكبها الجماعات (التنظيمات السياسية والدينية) أو الدولة (بسلطاتها الثلاثة ودوائرها السياسية والعسكرية والأمنية والتكنولوجية والإعلامية) ضد الأفراد والحق العام. فما صار يُعرف بالجيوش (أو الميليشيات) الإلكترونية، التي تمولها دول وأحزاب وعصب زبائنية، لتسقيط الخصوم (أفراد) وتهديدهم وترويعهم وشيطنتهم واغتيالهم معنوياً، تتجاهله مسودة القانون كلياً، بل تذهب إلى عدّ الجريمة الإلكترونية "جناية" شخصية فحسب، يرتكبها الفرد ضد الدولة "المغلوبة" على أمرها.
هذه المسودة تذهب بعيداً في تقييد الحريات بدل إتاحتها، عبر "تعظيم" مصطلحات غامضة لا معنى حصري لها وإعطائها صفة الإطلاق رغم إمكانية تأويلها بلا حدود، مثل "المساس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها"، و"التعامل مع جهة معادية"، و"زعزعة الأمن والنظام العام أو تعريض البلاد للخطر" و"الإساءة إلى سمعة البلاد"، و"إضعاف الثقة بالنظام المالي الإلكتروني"، و"الإضرار بالاقتصاد الوطني" و"الاعتداء على أي من المبادئ أو القيم الدينية أو الأخلاقية أو الأسرية أو الاجتماعية"، وغيرها. وتضع في مقابل أي "ارتكاب" لهذه البنود عقوبات جسيمة تصل في عدد من الحالات إلى السجن المؤبد والغرامة بملايين الدنانير.
هذه المسودة تخلط حق حرية التعبير السياسي المكفولة طبيعياً ودستورياً، بجرائم أخرى واضحة لا جدال فيها. فهذا الخلط المقصود هو محاولة تمويهية لتمريرٍ ناعمٍ لبنود القمع السياسي وسط بنود جرمية أخرى مفروغ منها (كالاحتيال والقرصنة والتزوير والابتزاز الإلكتروني)، فضلاً عن أن القانون العراقي قد تعامل مع المضمون الجوهري لهذه الجرائم (سواء كان إلكترونياً أو غير إلكتروني) وحدد عقوباتها منذ بدايات التشريع في الدولة العراقية.
وكل ذلك يرتبط بتوقيت طرح هذه المسودة، إذ يتزامن مع اشتداد الثورة المضادة التي تقودها النخب الأوليغارشية لوأد احتجاجات تشرين وشيطنتها، في مسعى مكشوف لشرعنة القمع السياسي ضد آلاف الناشطين والمدونين التشرينيين ومن يساندهم من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات المعلوماتية. هذا التوجه نحو القمع ولا شيء غير القمع، يصبح أمراً "مفهوماً" في ضوء أزمة اقتصادية طاحنة لا تسمح بتقديم مزيد من رشى الريع إلى المجتمع المقهور.
فإذا كانت الثورة المضادة قد نجحت ميدانياً في إيقاف المد التشريني الاحتجاجي لفترة من الزمن، وتحويل جزء من اتجاهات الرأي العام ضده، فيبدو أن نشوة "النصر" هذه باتت تتطلب البحث عن مزيدٍ من "الانتصارات" في الجانب التشريعي أيضاً لتثبيت ركائز سلطةٍ منخورة تمر بمرحلة الأفول. فبعد أن نهبت هذه السلطة المالَ العام كله، تسعى اليوم لقضم هامش حرية الاعتراض على هذا النهب.
هذا التغول الإستئسادي على ثورة تشرين، سيسهم جدلياً في تنشيط ديناميكيات الاحتجاج وإعطائه بُعداً فكرياً حيوياً جديداً. فما دامت العدالة منتهكة وغائبة في حياة المهمشين والمحرومين ممن بلغوا سن النضج السياسي، فلا شيء سيردعهم أبداً عن التمسك بحرية الرأي والتعبير –وخصوصاً في الفضاء الرقمي الرحب- بوصفها آخر الحقوق غير القابلة للتجزئة أو المساومة في بيئة سياسية واجتماعية مأزومة تنتظر حسم الصراع بين المالكين والفاقدين.
في ظروف الاستعصاء السياسي والانغلاق السلطوي الفاسد وتفتح الوعي الاحتجاجي الشعبي - كما في العراق اليوم-، يمكن لقيمة الحرية أن تتقدم على قيمة العدالة بنسبة معينة، وحينها سيضاف بُعدٌ جديد لمعادلة التغيير القادمة، إذ تصبح "نريد حرية" إحدى مرادفات "نريد وطن".