كما معروف، من ضمن مهام الخطاب الطائفي هو انه يقوم بوظيفة إيديولوجية مغلفة بلغة مخاتلة قادرة على اجتذاب بسطاء الناس، ليس بناء على تعريفهم بخصومهم الطبقيين الفعليين، ولكن بـ «خصومهم» من « الطائفة أو الطوائف الأخرى». قد تكون هذه اللعبة الإيديولوجية حاذقة في لحظة ما، ولكنها ستستمر الى حين تزول غمامة الوعي الزائف أو المفوّت ليحل محله الوعي الصحيح، وعي الصراع الاجتماعي واكتشاف قوانينه، والنضال من اجل حل تناقضاته المتوترة دوما.
لذلك يمكن القول ان الأزمة البنيوية التي تعيشها بلادنا ليست أزمة طائفية، بل هي أزمة اجتماعية حقيقية ناجمة عن ثلاثة عوامل رئيسية:
- الاستراتيجيات التي اعتمدها النظام الديكتاتوري السابق؛
- استراتيجيات الاحتلال بعد 2003؛
- وممارسات القوى المهيمنة في الطوائف «المتصارعة» التي منعت لحد هذه اللحظة تبلور دولة ديمقراطية عصرية تقوم على فكرة المواطنة.
لذا فالتصور أن جوهر المشكلة هو الخطر الذي تواجهه الطوائف» إنما هو تصور وهمي، وبالمقابل فإن التركيز على العامل الطائفي، رغم «خصوصيته» في بلادنا، سيساعد على إخفاء العوامل الأخرى، الأكثر فعالية في التطور الحقيقي لبلادنا وللأزمة في آن.
ارتباطا بالملاحظات السابقة يمكن القول أن صائغي الخطابات الطائفية، رغم «الصياغات الأنيقة»، يضعوننا أمام خيار وحيد دائما: أما القبول بمقارباتهم للإشكالية الاجتماعية ضمن رؤيتها بمنظار مقلوب باعتبارها مشكلة بين طائفتين دينيتين متصارعتين، أو اتهام خصومهم بالوقوف مع الطائفة الأخرى ! منذ البداية، نحن إذن أمام دور واضح، هو مصادرة التحليل والمقاربة التي ترتكن الى رؤية اجتماعية للمشكلات التي يواجهها مجتمعنا العراقي في لحظة تطوره الملموس، ليتم بعدها تكريس المقاربة الطائفية التي تستبعد أصلا الجماهير ونضالاتها الاجتماعية ( وليس «الطائفية»)، وتعيق طرح الأسئلة الحقيقية عن المشكلات الحقيقية التي تواجه نضال المجتمع اليوم، ذلك النضال الهادف الى بناء بديل وطني – ديمقراطي وليس استبدال هيمنة طائفة بأخرى.
هكذا إذن وفي لجة الخطابات الطائفية المتصارعة، تراجعت الى المرتبة الثانية مفاهيم مثل: الحرية، والشعب، والديمقراطية، والنضال السياسي، والطبقات الاجتماعية لتحل محلها مفاهيم أخرى من قبيل: التمييز الطائفي، الاضطهاد الطائفي، مظلومية الطائفة .... الخ.
هناك بعض هذه الخطابات تقول أن «ما وصل إليه العراق من أزمات كان نتيجة سياسة التمييز الطائفي للأنظمة الحاكمة «. وإذا دفعنا هذا القول الى نهايته المنطقية أمكننا الاستنتاج، طبقا لهذا الطرح، بما يلي:
1.إن الأزمات التي مرت بها بلادنا هي نتيجة لسياسات « التمييز الطائفي « أساسا.
2.واستنادا الى ذلك فإن « فرادة « هذه الأزمات تقوم على أساس انتفاء وجود طبقات اجتماعية في بلادنا. لقد حلّت – بحسب هذا الطرح– « الطوائف « محل الطبقات الاجتماعية، في تحديد تركيبة المجتمع العراقي.
واستنادا الى القول أعلاه، فإن الصراع بين «الطوائف» يحل محل الصراع بين الطبقات، ويكون بالتالي هو المحرك لتاريخ التشكيلة العراقية منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة !
ووفقا لهذا الطرح فإن أي حل للأزمة الراهنة يجب أن يقوم، إذن، على تحقيق «التوازن» بين الطوائف المتصارعة ! أي أن فكرة « التوازن الطائفي « يجب أن تكون ركنا جوهريا في أي برنامج لحل المشكلات التي تواجه بلادنا الآن وفي المستقبل، وهي على أي حال مشكلات ليست طائفية بل سياسية – اجتماعية. إن لهذا التمويه الإيديولوجي عاقبة مهمة هي تغييب سؤال السلطة وطبيعتها، بوضعها خارج النظر والتحليل، أو إضفاء طابع «طائف» عليها، رغم أنها القضية الجوهرية في التحليل، كما في النضال.
وطبيعي أنه تترتب على هذا التحليل نتيجة هي أن إلغاء وجود الطبقات، بقرار إيديولوجي، وإحلال «الطوائف» محلها، هو، بالتحديد، الذي يقود، منطقيا، الى إلغاء الشعب العراقي، كأن في إلغاء هذا الشعب، كشعب، يعد شرطا أساسيا لديمومة سيطرة الائتلاف الطبقي الحاكم (الذي يضم طبعا ممثلين للطائفتين الكبيرتين، إضافة الى المكونات الأخرى). هكذا تتأمن للائتلاف الطبقي السائد المتمظهر طائفيا وحدة تماسكه، وتتأمن له ديمومة سيطرته على «طوائف» لا تشكل خطرا على نظام هيمنته الطبقية إلا بمقدار ما تتفكك كـ «طوائف» لتتماسك ضد هذا الائتلاف كطبقات كادحة في حركة صراعاتها الطبقية.
وهكذا فإن هذه المقاربة الخاطئة تولد الوهم عند القوى التي تتحدث باسم هذه الطائفة أو تلك بأن لهذه المجموعة قوة سياسية لأنها «طائفة»، وأن قوتها السياسية هذه هي قوة ممثليها «السياسيين» الذين يتحدثون باسمها. والحقيقة أن تلك القوة السياسية التي يستمدها الزعماء التقليديون من تمثيلهم لـ «طوائفهم» ليست «طائفية» وليست فردية. إن هذه القوة تتمظهر هنا على أساس من إخفاء طابعها الطبقي الفعلي، وعلى أساس من إخفاء شرط وجودها الذي يكمن في انعدام وجود قوة سياسية لـ «الطوائف».
نقطة مقتل التحليل الطائفي، إذن، هي اختزاله العلاقات الاجتماعية-الطبقية الى علاقات بين «الطوائف». وهكذا بدلا من توصيف النظام السائد توصيفا سياسيا/طبقيا دقيقا وبالتالي الكشف عن القوى المسيطرة فعلا فيه، والتناقضات الفعلية الناظمة له وفي مقدمتها التناقض الرئيسي الناظم للمرحلة، يجري النظر إليه باعتباره نظاما «طائفيا». ومن المؤكد أن هذا النظام «الطائفي» ليس سوى الشكل الاجتماعي المحدد الذي يتمظهر فيه النظام السياسي السائد في البلاد في اللحظة التاريخية الملموسة.
والخطأ الثاني لهذا التحليل الطائفي هو افتراضه التعبير عن «رؤية أغلبية الطائفة « وهو افتراض غير دقيق لأسباب عديد من أهمها أن الطوائف عندنا ولجملة أسباب مقسّمة الولاءات، وانه لا توجد أية علاقة خطية بين انتماء أي شخص الى طائفة بعينها، كمواطن عادي، وبين انتمائه الى «الأحزاب الإسلامية». إذ ان التجربة التاريخية تشير الى أن قطاعات واسعة من أبناء مختلف الطوائف تمارس العمل السياسي ضمن أحزاب أخرى علمانية وليس «إسلامية».
ان آيديولوجيا الخطاب الطائفي مثالية، فقد اعتمدت مرحلة ماضية، وتحولت الى آيديولوجيا ما قبل تاريخية تقوم على الارتداد القسري على الواقع والحاضر الرأسمالي التبعي في بلادنا، حيث تتشكل الطبقات وبالتالي تتبلور الصراعات الاجتماعية وتتخذ طابعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ملموسا وليس طابعا طائفيا (وان إتخذ هذا الصراع شكل طائفيا، ولكن هذا الاخير لا يعبر عن جوهر الصراعات الاجتماعية الفعلية).
ولعل سؤالا مهما يطرح نفسه باستمرار وهو أين تكمن ضرورة الهيمنة «الطائفية « ؟ هل تكمن في بنية العلاقات بين «الطوائف»، أم أنها تكمن في بنية الدولة «الطائفية» من حيث هي دولة برجوازية، وفي طبيعة العلاقة بين هذه الدولة وبين البنية الاجتماعية في بلادنا؟ وبأي فكر تقارب تلك الضرورة: بفكر «طائفي»، أم بفكر نقيض ؟ سؤال بحاجة الى إعمال الذهن بصدده لإعادة التحليل الى سكته الصحيحة، وبما يمكن من رؤية المشكلات الحقيقية لمجتمعنا، وهي مشكلات اجتماعية – سياسية، وليس مشكلات انعدام التوازن بين «الطوائف».