لم يمض وقت طويل على زلزال إنهيار المعسكر الإشتراكي حتى شددت العولمة الرأسمالية من جهودها كي تحدث نمطا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا واحدا وتفرضه على البشرية.
ورغم المساعي الخائبة لمنظريها لإعطائها سمة الظاهرة الموضوعية الناتجة عن التطابق بين البشر وحاجتهم لسياسات تتخطى الأعراق والثقافات، فإن العولمة، في الحقيقة، ليست سوى طور جديد من التوسع الرأسمالي المتوحش، يسعى الى تعميم الرأسمالية والترويج لقيم السوق والتجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي والتبادل التجاري وانتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والمعلومات، وفق نظام مقّيد ومهيمن عليه من قبل الولايات المتحدة الامريكية، التي قامت، وحلفاؤها، من أجل تحقيق ذلك، بتحويل الثورة التقنية والمعلوماتية الى أهم مصدر من مصادر الثروة للرأسماليين، بغض النظر عما تسببه من خراب للبشر والبيئة والثقافات.
كما عمدت الى إنشاء التكتلات والمنظمات الاقتصادية والتجارية التي تمرّر من خلالها السياسات لصالح الرأسمالية العالمية كاتفاقية “الغات” وتكتل “النافتا” و”إيباك” ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. وسخّرت التشريعات الدولية ومنظمة الأمم المتحدة وجميع المؤسسات التابعة لها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة اليونسكو وحقوق الإنسان وغيرها لخدمة الرأسمالية العالمية وشرعنة سياسات الهيمنة ونهب الشعوب وسن مجموعة قوانين وانظمة لها العلوية على القوانين والانظمة المحلية. كما تم استخدام وسائل الدعاية والإعلام وشبكات الاتصال الحديثة، كالأقمار الصناعية والفضائيات والشبكة العنكبوتية وغيرها، لتحقيق هذه الهيمنة. وتكفي الإشارة هنا الى أن 65 في المائة من مجمل المواد والمنتجات الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية، عالميا، هي من إنتاج أو تحت سيطرة الولايات المتحدة.
ومن أبرز نتائج العولمة الرأسمالية المتوحشة تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات وهيمنتها على النشاط الاقتصادي في دول متعددة وإشاعة ثقافة استهلاكية موحدة، وتحكمها في النزاعات الاجتماعية داخل كل بلد وعلى الصعيد العالمي. وتشير لغة الإرقام الى سيطرة هذه الشركات على الاقتصاد العالمي حيث تفوق مبيعات شركة جنرال موتورز الإنتاج الاقتصادي لتركيا، وتعد شركة آي بي إم للإلكترونيات أكثر ثراءا من الاقتصاد الباكستاني. وفي ما تعود ملكية 172 شركة من مجموع 200 شركة عملاقة الى خمس دول هي الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، تستأثر 350 شركة كبرى لتلك الدول بما نسبته 40 في المائة من التجارة الدولية. وتسيطر هذه الشركات اليوم على 85 في المائة من قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية و 85 في المائة من قطاع المبيدات، و70 في المائة من قطاع الحاسبات و60 في المائة من قطاع الأدوية البيطرية و35 في المائة من قطاع الأدوية الصيدلانية و34 في المائة من قطاع البذور التجارية.
وبموازاة إتخاذ الوحدة الاقتصادية للتشكيلة الرأسمالية طابعا عالميا، تمثل في سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية على الصعيد العالمي والوطني، مع الأخذ بالأعتبار إختلاف الأنماط وتفاوت مستويات التطور، أُحتكرت القوة العسكرية والاعلامية والتكنولوجية، وحُوّلت الى ذراع ضارب لمصالح الرأسمال العالمي، بغية فرض أفكار الليبرالية الجديدة، وتقليص الديمقراطية الاجتماعية في الدول المتقدمة وتهميش واقصاء القوى المنتجة ومنظماتها، وإضعاف مبدأ السيادة الوطنية، وحسم التناقض بين العمل ورأس المال في الدول النامية لصالح أنظمتها الإستبدادية وتفكيك هذه الدول وإعادة دمجها في التكتلات الاقتصادية الكبرى من موقع التابع، وفرض الهيمنة عليها وخلق إمتدادات دولية للنزاعات الطبقية الوطنية، توفر ذرائع “مشروعة” للتدخل الأجنبي المباشر في الصراع الطبقي على الصعيد الوطني.
وعبر تمزيق قوى الإنتاج في الدول الوطنية وتخريب وحدتها الطبقية، بتعزيز الهويات الفرعية والطائفية وإفتعال صراعات ثقافية وإشعال حروب أهلية، تم تخريب هذه الدول والهيمنة عليها بواسطة شرائح كومبرادورية تابعة. واتسعت، جراء هذه الجرائم، الفجوة بين أغنياء العالم وفقرائه ووقعت الدول المتخلفة في براثن التبعية نتيجة القروض والمجاعات والتصحر والأوبئة وغيرها، مضحية بإستقلالها السياسي كي تستمر بالحياة.
وتجدر الإشارة الى أن هناك في العالم 358 ملياردير يمتلكون ثروة تساوي ما يملكه أكثر من نصف سكان العالم وإن 20 في المائة من دول العالم تستحوذ على 85 في المائة من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84 في المائة من التجارة العالمية وعلى 70 في المائة من الطاقة و75 في المائة من المعادن و60 في المائة من الغذاء، ويمتلك سكانها 85 في المائة من المدخرات العالمية، فيما يعاني مليار إنسان من الجوع ومليار من الأمية ويفتقد 3.1 مليار لمياه الشرب في الدول التي يسكنها 82 في المائة من البشرية وليس لها سوى 19.5 في المائة من رؤوس الأموال و8 في المائة من التجارة الدولية فقط!
وبديهي أن يقف اليسار العالمي، وفي طليعته الشيوعيون، مناهضاً بكل قوة لهذه العولمة المتوحشة ولنتائجها الكارثية، مدركاً لطبيعة التغييرات التي أحدثتها في طبيعة الصراع الطبقي وتركيبة القوى الاجتماعية ومواقعها. وبديهي أيضا أن لا يصبح ممكنا اليوم إعتماد اليسار كمنهج لأي كان، مالم يربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ليس على صعيد محلي فقط وإنما على الصعيد العالمي أيضا. ولن يكون هناك مستقبل واضح لقوى اليسار ما لم ترفض المساومة مع العولمة المتوحشة - مهما كانت ذرائع وظروف تلك المساومة – وما لم تربط بين برامجها من جهة وبين التضامن الأممي والديمقراطية والسعي لإعادة توزيع الثروة وفائض القيمة والسلطة على الصعيد الوطني والعالم من جهة أخرى.
وتجد الدعوات لبناء روابط فكرية مناهضة للعولمة المتوحشة بين أطراف اليسار إستجابات إستثنائية، وذلك لإقامة عولمة نقيضة، عولمة إنسانية، عبر الإستفادة بأقصى ما يمكن من الأستقطاب الهائل الذي تخلقه العولمة المتوحشة لتجسير العلاقة بين اليسار وقاعدته الاجتماعية، والجمع بين سياسات اجتماعية متعددة تضمن مصالح قطاعات واسعة من البروليتاريا والطبقة الوسطى، الذين تهدد مصالحهم اليوم العولمة الرأسمالية المتوحشة.