تقتضي الضرورة هنا القيام بوقفة سريعة عند اتجاهات التحولات الطبقية – الاجتماعية التي حصلت خلال مرحلة ما بعد 2003 ذلك لأنه لا يمكن فهم طبيعة هذه المرحلة ولا تحديد مهماتها ولا قواها المحركة ولا ضرورات التغيير من دون معرفة المعالم الاساسية لاتجاهات تلك التحولات وما تحمله من آثار تستدعي ضرورة التغيير.
فمن المعروف أن بنية المجتمع العراقي ومكوناته الطبقية تعرضت إلى تبدلات متواصلة فرضتها حالة عدم الاستقرار والصراعات الطائفية –الاثنية... الخ، وأطلقت حراكاً اجتماعياً أفضى، مؤقتا، إلى طمس المعالم والحدود الفاصلة بين الطبقات والفئات والشرائح الطبقية وأعاق عملية تبلورها بالوجهة السليمة. فقد أزيحت بعض القوى والمجموعات الاجتماعية التي كانت تحظى بدعم النظام الدكتاتوري المقبور ورعايته. وبالمقابل ظهرت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتداخل أنشطتها التجارية مع عمليات السطو والنهب التي ترافقت وانهيار النظام والدولة العراقية. واتخذ هذا “التحول” – من بين ما اتخذ - طابعا طفيليا، ذلك أن النشاطات المذكورة تتركز بصورة رئيسية في مجال التداول وليس في مجال الإنتاج وخلق القيم.
وتحصل الشرائح المشار إليها على مداخيل وتجني “أرباحاً” من تلك الأنشطة القائمة على الوساطة فضلاً عن الأنشطة اللاشرعية كالتهريب وفرض الاتاوات والاستحواذ على ثروات الآخرين، اضافة الى الفساد العميم الذي صار “مؤسسة يشار اليها بالبنان”!!.
وتتمثل قيم البرجوازية الطفيلية والتي انتشرت وسادت في المجتمع العراقي، في مجموعة “قيم” تحث على الكسب السريع والسهل بدلاً من العمل المنتج، والاستهلاك بدلاً من الحث على الادخار والاستثمار، والاهتمام باللحظة الراهنة بدلاً من الاهتمام بالمستقبل البعيد والتخطيط له، والهروب من مواجهة الواقع بدلاً من التصدي لتغييره، وتقدير الفرد حسب ما يقتني وليس حسب ما يتمتع به من إمكانيات عقلية وأخلاقية، واللامبالاة والسلبية بدلاً من القدرة على الإبداع وابتكار الحلول، والحث على الفساد بجميع صوره (فالغاية تبرر الوسيلة ( والغاية هنا هي المال، إضافة إلى تفشي الرشوة والتزوير واستباحة الملكية العامة لحساب الملكية الخاصة وإعلاء المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية.
وخلال هذه الفترة نشأ تشابك مريب بين منظومة الفساد والمتنفذين الفاسدين في اجهزة الدولة ومؤسساتها من جهة، وفئات البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية وأوساط من التجار الكومبرادور وبعض اصحاب المصارف والمتاجرين بالعملة ومالكي الفضائيات ومهربي النفط. وتوسعت هذه الظاهرة لتكتسب ابعادا مجتمعية وتنطوي على مخاطر كبيرة.
وإذا ما بحثنا في مسار الاستقطابات الطبقية الاجتماعية الملموسة في بلادنا فانه يمكن القول ان حصيلة السنوات الـ 17 الأخيرة بيّنت تفاقم التفاوتات الاجتماعية وتعمق الفرز الطبقي والاجتماعي، اضافة الى تعاظم مستويات الفقر والتهميش. وتعود أسباب ذلك الى النظام المحاصصي الطوائفي- الاثني وما أسسه من علاقات اجتماعية، وفي مقدمتها علاقات الملكية وبنية السلطة التي افرزت هذه الاوضاع، حيث تم تحويل الثروة من الفقراء الى حيتان السلطة وحاشيتها وتمركزها ما عزز مواقع شرائح محددة. ولابد من التأكيد هنا على أن ما جرى ويجري من استقطاب ليس قدرا محتوما بل هو نتاج النظام المهيمن وبنية السلطة ومنظومة علاقات الانتاج المهيمنة وهيكل الملكية السائد، وأيضا بنية الاقتصاد العراقي وطبيعته الريعية والمتخلفة والأحادية الجانب نتيجة انخراطه المبكر في قسمة العمل الدولية الرأسمالية واحتلاله لموقع المتخلف والتابع.
إن “الشرائح” الطفيلية التي نمت بعد سقوط النظام الدكتاتوري هي – مع بعض الاختلافات غير الجوهرية - امتداد لتلك التي كانت قد ترعرعت في كنف السلطة الحاكمة آنذاك وشكلت إحدى مكوناتها. وتقوم شرائح من هذا النوع بدور حلقة وصل بين أقسام من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الإنتاجية المحلية، وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع وأعمال الابتزاز في الداخل. ومن جهة أخرى يتعين التأكيد أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى القطاع الحكومي، ويعني هذا أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية.
وبالمقابل فان البيروقراطية أو ما يمكن تسميتها بـ “البيروقراطية المترسمة” متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر قطاعات كبيرة منها في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة، فان لحظة تكوينها حدثت جراء “حيازتها” لجهاز الدولة. وقد آلت إلى هذه الفئة، بفعل عملية نهب المال العام ومن خلال آليات عدة، حصة كبيرة من الانفاق الاستهلاكي والاستثماري. وبسبب طبيعة التشابك بين السلطة والثروة وإعادة توزيع الادوار، لوحظ وبشكل متزايد بروز ادوار أقارب وعائلات الماسكين بزمام السلطة والحكم من ابناء وأصهار وأقارب، ونشوء انواع مختلفة من الشبكات “الزبائنية” التي شكلت مصدرا اقتصاديا جديدا، يعزز قدرة هذه “الشريحة” ويعد واحدا من محددات “قوتها” الاجتماعية.
ثمة ظاهرة جديدة ملفتة للنظر شهدتها السنوات الاخيرة وخصوصا اثناء التحضير للانتخابات البرلمانية ما قبل الاخيرة (2014)، ربما لم تظهر بقوة في الانتخابات التي سبقتها بل كانت البدايات حينذاك “جنينية”، ونقصد بهذا نشاط البرجوازية الطفيلية التي كانت تريد الاستفادة القصوى من ثمار “الانفتاح” اقتصاديا وتعزز مواقعها، وان ينعكس ذلك بمواقع لها في السلطة السياسية، من أجل تامين مصالحها على صعيد السلطة والبناء الفوقي عموما. وأثناء التحضيرات للانتخابات البرلمانية المذكورة وفي ظل الاستقطاب الطائفي/الاثني المتفاقم ظهر مليارديرات كانوا يسعون أما لتشكيل قوائم كبيرة أو تمويلها وتوظيف ذلك لتحقيق هيمنة على المستوى السياسي أيضا بعد ان تمكنوا - وتحت يافطات مختلفة - من الهيمنة على المستوى الاقتصادي، وهم لا يترددون عن اعتماد أية وسيلة للوصول الى غاياتهم، ولا ينبغي نسيان الدعم الخارجي، الذي يحصل عليه هؤلاء لتحقيق اهدافهم فلم يعد هذا الدعم عيبا أو مثلبة عند البعض!
لقد خاض هؤلاء صراعا محموما لتحويل هيمنتهم الاقتصادية المتنامية الى هيمنة سياسية عبر وسائل مختلفة وفي مقدمتها المشاركة النشيطة في الانتخابات البرلمانية وإحراز “نصر” فيها يتجلى بعدد المقاعد وتوظيف ذلك لضمان “شرعية” اضافية على نشاطاتهم وثرواتهم وجذورها الملتبسة، وهكذا وباسم “الديمقراطية تتم عملية “تبييض” أموال الفساد الضخمة بحيث يتم التمويه على “آبائها الشرعيين”.
إن الملاحظات السابقة تتيح تلمس ظاهرة التسييس المتعاظم لقطاعات من “البرجوازية الجديدة” بشرائحها المختلفة. فنظرة سريعة على الاحزاب الحاكمة والبرلمان الذي انبثق في 2014 وفي 2018 تبين انهما اصبحا الساحة الأساسية لنشاط “الرأسماليين الجدد” السياسي. ويبدو أن “رجال الأعمال الجدد” هم إحدى “الشرائح” التي تشهد معدلا مرتفعا للتسييس في المجتمع العراقي الآن. ففي الوقت الذي تستمر بعض الفئات الاجتماعية في الانسحاب من السياسة، يلاحظ في ذات الوقت كيف ينشط “الرأسماليون الجدد” في الالتحاق بالأحزاب المتنفذة، وان بمستويات متفاوتة ترتبط بموقع الحزب المعني بصناعة القرار (بعدا او اقترابا)، والاستحواذ على مناصب فيها، هذا بالإضافة بالطبع إلى خوض معارك شرسة، تستخدم فيها مختلف الأسلحة، من أجل انتزاع مقاعد في البرلمان. وطبيعي الاشارة هنا الى أن عملية التسييس هذه لا تقتصر فقط على زيادة أعداد “رجال الأعمال” في مجلس النواب، ولكن على احتلالهم ولأول مرة مناصب هامة فيه.
الجديد في الموضوع هو أن بعض “رجال الأعمال الجدد” لم ينظموا الى الاحزاب المتنفذة من أجل تحقيق مصالح شخصية فحسب فقد تجاوزوا ذلك بسبب تعاظم “لحمتهم الطبقية”، بل إنهم- وهذا هو الأهم- يريدون التأثير على السياسات العامة، باعتبارهم “شريحة” موحدة الاهداف والمصائر، بهدف تكييفها لمقتضيات نمو “رأسمالية من طراز خاص”، رأسمالية ريعية وطفيلية وفاسدة ونهابة في آن، فالرأسمالية العائدة اليوم بعد سنوات جدب الحصار الاقتصادي وممارسات وسياسات النظام المقبور وجدت في انتظارها دولة شديدة التضخم، تسيطر على جانب هام من الاقتصاد نتيجة استحواذها على الريوع النفطية المتعاظمة المتحكمة في رقاب الاقتصاد والمجتمع، لم تفلح كل الشعارات الليبرالية في إخفائه، وهي دولة لا يتأتى لكثير من “رجال الأعمال” النمو والازدهار إلا بالتجارة والعمل معها (باعتبارها أكبر رب عمل)، رغم ان بعضهم اعتاد على سب وشتم السلطة الحاكمة في النهار ولكنه بالمقابل اعتاد على عقد الصفقات “الدسمة” مع ممثليها “النشامى” في ظلام الليل!