هيبة الدولة هي القوة المعنوية للسلطة الحاكمة بأدواتها الدستورية من مؤسسات قانونية وادارية وعسكرية وشرطية التي تكفل تحقيق شروط التعاقد الاجتماعي لأبناء الوطن الواحد وتحمي حقوقهم... غيابها يعني الفوضى بعينها بسبب تعدد مراكز القوى والقرار وصراع المصالح المنفلت, وهو بالضبط ما هو يجري في بلادنا.
حديثنا عن " البطة " ونزول ميليشيا السرايا للمدن وزيارة بلاسخارت إلى إيران , وعلاقة الحدثين بالانتخابات.
انا مدين أولاً للقراء من غير العراقيين الذين لا يعرفون المعنى العراقي للبطة المقصودة, بتوضيح حولها :
" البطة " - هي ببساطة سيارة تويوتا, مضللة لا تحمل عادة ارقام تسجيل, استخدمتها ميليشيات جيش المهدي سابقاً في إرهاب وقتل المواطنين والمعارضين منهم بالخصوص ويجري التهديد باستعادة دورها السابق.
بدأ اللغط مع تصريحات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي رئيس " دولة القانون " حول " لا عودة لسلطة البطة " في مجرى تنافسه والتيار الصدري على الفوز برئاسة الوزارة القادمة, بمثابة " استدعاء الذئب من الغابة ", حيث أثارت ضغينة اتباع التيار عليه, وهاجموه من خلال القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي, ثم قاموا بقرار من مقتدى الصدر باستعراض قوة في مدن بغداد والنجف وكربلاء بدعوى وجود تهديدات إرهابية لتهديم مراقدها المقدسة, لم تثبت صحتها.
إلهاب الصراعات في هذه الفترة المبكرة على موعد الانتخابات ( تشرين 1 / اكتوبر القادم ) ينم عن عدم مسؤولية, بسبب ما تعيشه البلاد من انسدادات واحتقانات وأزمات.
لاسيما وان بحوزة الطرفين ميليشيات مسلحة تصل سلطتها حد القفز على سلطات المؤسسات الشرعية للدولة. فالتيار الصدري لديه اليوم ميليشيا " سرايا السلام " بينما دولة القانون/ نوري المالكي متحالف مع تكتل يضم ميليشيات مسلحة ايضاً ضمن منظومة " الحشد الشعبي".
أغرب ما في صراعهما ليس في اقحام البطة هذا الكائن الظريف الوادع بل أن تراشقهما يدور في إطار التحضير للانتخابات التي يفترض أن تكون ممارسة ديمقراطية سلمية حرة بينما يحاول كلاهما الفوز بها بالغطرسة والفرض المسلح.
لم يتنازعا على الطريقة الفضلى لخدمة الجماهير, بالتخلي عن نهج المحاصصة والفساد الذي حكموا ويحكمون به البلاد, سبب مآسي المواطن الحالية, بل على أسهل الطرق للاستحواذ على موقع رئيس الحكومة والاستئثار بأمتيازاته وسلطاته الواسعة.
ورغم كل هذه الزوبعة الإعلامية ما قبل انتخابية فإن احتمالية توافقهما واردة. فقد حدثت مثل هذه الحالات في فترات سابقة, لذا أصبح المواطن لا يكترث بها ولا يحملها على محمل الجد, فهي يوم ما تصح تضره وليس فقط عندما تثبت كذبها وريائها التمثيلي الاستعراضي, وتراه يردد " نارهم تاكل حطبهم ", فبالنهاية هناك الكثير من المشتركات التي تدفعهما للتوافق مثل :
اولاً - تمسكهما بالطائفية السياسية ايديولوجياً وتقسيم شعبنا على اساس الطوائف واعتماد نهج المحاصصة الطائفية - العرقية في الحكم.
ثانياً - اتفاقهما على تصفية نتائج انتفاضة تشرين المتألقة وازاحة شبابها من المنافسة الانتخابية بالقتل والترهيب والتشويه والتزوير.
ثالثاً - تشبثهما بالسلطة لكونها الحامي والغطاء لكل ما ارتكبوه من جرائم وسرقات ومقامرات في مصير البلاد والشعب.
رابعاً - اتفاقهما وتوافقهما على إبقاء ملفات الفساد ورؤوسه, والكوارث التي حاقت بالعراقيين منذ استلامهما السلطة ولهذا اليوم مغلقة... وعدم الكشف عن قتلة شباب انتفاضة تشرين الشعبية 2019 وابقاء اسماء مرتكبيها طي الكتمان وبعيدا عن المحاسبة القانونية.
وفي الوقت التي تتجاهل به أحزاب السلطة واذرعتها المسلحة هيبة الدولة في كل شاردة وواردة, فان دول الجوار الإقليمي لا تدخر جهداً ومناسبة للتدخل في الشان الداخلي وخرق سيادة البلاد وقضم حدودها ومياهها وسرقة ثرواتها, التي اتخذت مظاهراً متعددة مثل التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة العراقية وأجهزتها, انتشار القواعد العسكرية التركية في شمال البلاد لمحاربة البه كه كه وكذلك التأثير الأمريكي في توجيه بعض سياسات الدولة العراقية وغيرها من هذه التجاوزات…
وكل هذا كوم, وتجاوز الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق السيدة جينين هينيس بلاسخارت على سيادة البلاد بزيارتها الأخيرة لإيران لبحث مسألة الانتخابات العراقية معهم وكانها تمسك بيديها " كارت بلانش - تفويضاً حكومياً ", كوم آخر... فهو موقف استهجنه الكثير من العراقيين, ولم يكن توقعه من المنظمة الاممية.
ورغم ما قيل بأن الزيارة جاءت لدعوة السلطات الإيرانية لضبط اذرعها المسلحة والأحزاب التابعة لها وعدم تعويق الانتخابات, غير ان رد المسؤول الإيراني كان واضحاً بوضعه شرط - عدم تدخل قوى اخرى لكي لا تتدخل بلاده - وهذا يعني عملياً فشل جهود الممثلة الأممية بلاسخارت.
وتحولت مشكلة شرعية زيارتها لايران بصفتها الأممية الرسمية, ومدى تقاطع ذلك مع السيادة العراقية وقانون ممثلية المنظمة الاممية في العراق " يونامي " نفسها, موضع تساؤلات...
فقد تعددت القراءات لزيارتها ولقائها بعلي اكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني الأعلى السيد خامنئي, ومناقشتهما الانتخابات العراقية القادمة.
البعض اعتبرها خرقاً للسيادة العراقية لكون مناقشة قضية عراقية داخلية بحتة, قضية الانتخابات, مع قيادة دولة اجنبية أمر مستغرب وغير وارد اطلاقاً, لمساسه بالسيادة العراقية من جانب وعدّه البعض بأنه أشبه باعتراف ضمني من "يونامي " بكون العراق خاضع للإيرانيين وهم من جانب آخر يحددون مصيره.
باحثون اعتبروا الزيارة خرقاً لضوابط عمل الممثلية الأممية " يونامي " ذاتها, المقرة في مجلس الأمن و يتقاطع مع المباديء المكتوبة التي تؤكد على مساعدة العراق في مختلف المجالات…. بشرط وجود موافقة وتفويض حكومي بذلك.
فقد وصف الباحث السياسي الدكتور يحيى الكبيسي, في لقاء على احدى القنوات الفضائية, بيان يونامي الذي صدر بعد اعتراضات اوساط سياسية وشعبية على الزيارة, بأنه " تدليس واضح " لأنه تجاهل الفقرة 2 من قرار مجلس الأمن2522 (2020 ) الذي جاء فيه عبارة ( متى طلبت حكومة العراق ذلك ).
http://www.uniraq.com/index.php?option=com_k2&view=item&layout=item&id=110&Itemid=207&lang=ar
لا أحد يعرف هل كان هناك طلب رسمي عراقي لبلاسخارت لإجراء محادثات مع الإيرانيين بشأن الأنتخابات ام لا... فلم تفصح الحكومة عن ذلك وكأن الأمر لا يعنيها !!!
لا اتمنى أن يكون خيالي قد شط كثيراً فيما لو توقع تقديمها طلباً للإيرانيين للمشاركة في الإشراف على نزاهة الانتخابات كحل وسط توافقي!!!
ولو حصل ذلك لكان نكتة الموسم بحق !
لا مكان, بالطبع, لنظرية المؤامرة في توقعي هذا, وإنما هي عدم الثقة التي زرعتها في نفوس العراقيين تحركات ومواقف وتقارير ممثلية الامم المتحدة "يونامي" ورئيستها المتجاهلة لعمليات القنص والقتل الوحشي والاختطاف الممنهج والسافر الذي مارسته ميليشيات أحزاب السلطة بحق المنتفضين السلميين إبان احداث انتفاضة تشرين المجيدة وضحاياها التي تجاوزت أعدادهم عشرات الآلاف بين شهيد وجريح ومختطف مغيب.
أمراض الدولة العراقية المعاصرة ارتبطت بطبيعة القوى الطبقية التي تداولت شؤونها وأساليب حكمها الدكتاتورية, ذات المنطلقات الايديولوجية الاستبدادية, لذا أصبح العلاج الأنجع لها, هو في مغادرة النهج السابق والبدء بنهج جديد : إجراء انتخابات ديمقراطية حرة عادلة وباشراف اممي وبمنع تام لاستخدام المال السياسي ولمشاركة الأحزاب التي تمتلك أذرع مسلحة, إضافة الى توفير كل المتطلبات القانونية والإدارية والفنية التي تكفل تحقيق انتخابات نزيهة تعبر حقا عن ارادة الشعب.