تبرز اليوم أزمة البطالة المستفحلة بشكل متزايد، ومعها المطالبة المتصاعدة بفرص عمل كأولوية غير قابلة للتأجيل، تتصدر بقية الأولويات الهامة مثل تردي الواقع الصحي في ظل تصاعد الإصابات بفايروس كورونا، الامر الذي يعكس وضع الخدمات البائس العاجز عن تأمين احتياجات المواطن الضرورية من جانب.. ومن جانب آخر جاءت تداعيات خفض القيمة الشرائية للدينار العراقي، وما خلفه من ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية والضرورية للعيش، بحيث قفزت الى أكثر من الضعف. وإنعكس هذا بصورة موجعة بل كارثية على معيشة وحياة محدودي الدخل والفئات المهمشة، والشرائح الاجتماعية التي تعيش دون مستوى الفقر والتي تقرب نسبتها من 25 في المائة، وفق آخر دراسة أجرتها وزارة التخطيط بالتعاون مع البنك الدولي، حيث بلغت الأعداد نحو (١٠) ملايين عراقي!!
والمفارقة المؤلمة ان الحكومة لم تُقدم على أي حل جدي، يحمي هذه الشرائح من آثار السياسات غير الإنسانية التي لم تكترث للمواطن العراقي وكرامته. أما التصريحات التي تتوعد التجار وتحمّلهم مسؤولية رفع الأسعار، فلا أثر لها على الواقع، حيث أن وصفات البنك وصندوق النقد الدوليان تقف لها بالمرصاد. ذلك انهما هما من يُسيّران بصورة مباشرة وغير مباشرة، السياسة الاقتصادية في العراق. وبهذا المعنى فالسوق العراقية مفتوحة وليست هناك أية آلية لمراقبتها وضبطها، وهي بهذا تشكل نقيضا للسوق الاجتماعية. ولنرجع الى تجارب التاريخ في هذا المجال، فقد سبق لنظام صدام مثلا ان عاقب التجار، ووصل به الامر حد إعدام عدد منهم، لكنه لم يتمكن من ضبط السوق وآلياته.
إن هذه الأوضاع المؤلمة التي يئن تحت وطأتها ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل والمحتاجين ومحدودي الدخل، لا ينهيها سيل التصريحات المبشرة بـ ( الخير القادم!) ولا المليارات التي وعدت بها الدول الإقليمية بهدف الاستثمار، وتبقى أقرب الى الوهم مثل سابقاتها، ومنها الخمسة مليارات التي وعدت بها تركيا وتحدث عنها رئيس الوزراء عقب عودته منها يوم ١٧/٩/٢٠20.
لا لن تتحمل الناس طويلا قسوة الأوضاع المعيشية، بل أنها ستهب مطالبة بالعيش الكريم. ولن تكون هبة المحاضرين التي إنطلقت صباح ٣/٤/٢٠٢١ وإمتدت الى كل المحافظات بصورة منظمة، وكسبت تعاطف الشعب العراقي، وتضامن معها طيف واسع من المهتمين والناشطين والنقابيين، لن تكون الهبة المطلبية الأخيرة، التي لم تتوقف إلا بعد صدور القرار رقم ٣١٥ عن إجتماع مجلس الوزراء يوم ٦ نيسان الجاري، والقاضي بتوظيف المحاضرين بصيغة عقود، ما يتيح لهم حقوقاً تقاعدية وإمتيازات تشبه الممنوحة للعاملين على الملاك الدائم. لكن القرار الذي انتزعه المحاضرون المتطوعون لن ينهِ الحركات المطلبية، بل سيحفز شرائح أخرى على تنظيم نفسها للاحتجاج والمطالبة .
نعم، سيحفز القرار (٣١٥) المطالبين بفرص عمل على الانضمام الى الحركة المطلبية، كما فعل القرار الذي سبق ان أصدره رئيس مجلس الوزراء بتعيين ٤٤٠ شابا من الخريجين على ملاك وزارة الدفاع بصفة مدنيين، والذي حمل تاريخ ٥/٨/٢٠٢٠ وصدر غداة لقائه بهم أمام المنطقة الخضراء إثر اعتصامهم طيلة ٥٢ يومأ.
ان مشكلة البطالة لن تحل بردات الفعل ولا بسياسة الصدمة او إجراءات إطفاء الحرائق، إنما يتطلب الامر التوجه نحو بناء إقتصاد حقيقي متنوع يعتمد الصناعة والزراعة، وتَبنّي سياسة تستند على توزيع عادل للثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وواهم من يتصور أن هذا الشكل من الاحتجاج بعيد عنه، فهو كمن لم يقرأ آثار الاحتجاجات على السياسات العامة. ذلك ان الاحتجاجات المطلبية هي أحد مظاهر أزمات النظام وعيوبه. وان أحد اهم دورس إنتفاضة تشرين، هو قدرتها على تحويل المطالب المعيشية والخدمية والمهنية الى مطالب سياسية جذرية مثل مطلب إسقاط الحكومة، الى جانب مطلبي محاسبة الفاسدين ومحاكمة القتلة، الذين لم يكف المحتجون عن رفعهما حتى الآن في ساحات الاحتجاج.