تبددت تبريرات المتنفذين الذين قرروا خفض قيمة الدينار العراقي. صمت المتلاعبون بقوت الشعب صمت القبور، بعد أن صدعوا رؤوسنا بان “ تغيير سعر الصرف يمنع تهريب العملة، وأن إسطورة مزاد العملة إنتهت الى الابد”. لم تبق حجة لمنظري إفقار الشعب في مقابل زيادة أرصدة طغمة الفساد، عبر ما جنت وتجني من مزاد العملة. إنهارت ذرائعهم بعد أن تجاوزت مبيعات البنك المركزي ٢٠٠ مليون دولار يوميا، وهي أعلى من معدلاتها قبل تغيير سعر الصرف، ما برهن على فشل فرضيتهم التي أدعت “ان تغيير سعر الصرف سيقلل من مبيعات مزاد العملة”.
لم تنطل حجج أصحاب القرار الذين ينطلقون من مصالح طبقية، خدمة للماسكين بالسلطة المستحوذين على المال العام المتشاركين مع تجار الصفقات المالية المشبوهة. ها هي حجج المنبطحين امام صندوق النقد الدولي أوهن من بيت العنكبوت، لا تتجاوز “حنكة” أي بقال في “سوق مريدي”. والذرائع الواهية لا تنطلي على من خبروا خبث ودهاء المتلاعبين بالمال العام وجشعهم.
ذريعة “دعم المنتوج الوطني” تبدو محاولة بائسة للتزييف، فلا منتوج وطنيا تم دعمه، ولا إعفاء ضريبيا حصل، ولا تسهيلات كمركية قُدمت، ولا تخفيف إجراءات بيروقراطية جرى. بل ان ما شهدناه كان العكس تماما، حيث فتح باب الاستيراد على مصراعيه، ولم يتغير واقع البضائع في أسواقنا المحلية. وبالكاد تجد “صنع في العراق” بين الكم الهائل من البضائع المستوردة، فيما تزداد الدعوات الى إستيرادات أكبر في ضوء إرتفاع أسعار المواد وتضرر المواطن البسيط من غلائها، فيما لم تقم الحكومة بأية اجراءات للحد من ذلك.
لنترك حجج المتنفذين وذرائعهم ونذهب الى الأرقام ولغتها. فما زالت نسبة الفقر في العراق فاحشة حتى حسب إحصائيات وزارة التخطيط، حيث بلغت في المثنى ٥٢,٥ في المائة، وفي الديوانية ٤٤,١ في المائة، وميسان ٤٢,٣ في المائة، وذي قار ٤٠,٩ في المائة ، ونينوى ٣٤,٥ في المائة.
أما معدلات التضخم فقد وصلت حد ٥,٦ في المائة خلال الأشهر الخمسة الماضية، (تشرين الثاني ٢٠٢٠- آذار ٢٠٢١). وارتفع معدل التضخم الشهري خلال آذار الماضي بنسبة ٠,٧ في المائة مقارنة مع شباط الذي سبقه.
وأما نسب إرتفاع الأسعار التي أعلنتها وزارة التخطيط، فهي في مقلقة وغير مسبوقة. وقد حسبت الوزارة إرتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة ٢,٢ في المائة خلال آذار الماضي. والحصيلة الملموسة كما تؤكدها أسعار السوق الحالية، هي أن نسبة إرتفاع الأسعار التي تم تسجيلها بعد تغيير سعر صرف الدولار تتراوح بين ٤٠ و٥٠ في المائة. على سبيل المثال كان سعر لتر زيت الطعام ١٢٥٠ دينارا بينما بلغ الان ٢٥٠٠ دينار. وارتفع سعر كيلو الطماطم من ٥٠٠ دينار الى ١٠٠٠ دينار، فيما ارتفع سعر السكر من ٧٥٠ دينارا الى ١٢٥٠ دينارا للكيلو الواحد.
إن ما تقدم يبرهن على فشل تام للسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، وإستنزاف للعملة وارتفاع لمعدلات الفقر وزيادة للتضخم وتدهور لمستوى معيشة السكان وتردي الخدمات. ببساطة قضم تغيير سعر الصرف ربع الدخل الشهري لذوي الاجور، فيما ابتلع الغلاء ربعا آخر. وبحساب بسيط اذا كان راتب منتسب ما ٦٠٠ الف دينار فقد أصبحت قيمته الحقيقية الآن ٣٠٠ الف دينار. وبهذا المعنى فان الراتب الذي كان بالكاد يغطي نفقات العائلة لثلاثة أسابيع، أصبح بالكاد يوصلها الى منتصف الشهر! وبذلك اتسعت الهوة بين ما بلغته الحيتان وبين حال فقراء العراق ومهمشيه.
هذا كله .. اضافة الى عوامل أخرى، سيجعل الصراع الطبقي في العراق يحتل مرتبة متقدمة في المجابهة المتوقعة بين طغمة حكم نهبت المال العام، واستأثرت بالسلطة التي أمّنت لها المنافع والامتيازات، وبين الكادحين ومحدودي الدخل والفئات الهامشية في المجتمع. فالاغلبية الساحقة تكتوي بنار العوز والفقر والمرض والبؤس.
وسيندلع صراع لا مساومة فيه بين طرفين: الشعب بشبابه الاحرار وهم يرفعون مطلب العدالة الاجتماعية، وطرف آخر يسعى لرهن العراق لمصالح خارجية. وهذا يتنازعه إتجاهان هدفهما واحد، ولا يلغي الخلاف الظاهري بينهما هدفهما المشترك المتمثل باخضاع العراق للهمينة الاجنبية:
إتجاه يربط مصير العراق بالدول الإقليمية التي لا يهمها سوى مصالحها، بجعله منطقة نفوذ لها وسوقا لتصريف بضائعها، واتجاه ثانٍ لا يقل خطورة بمسعاه غير الحميد لرهن العراق إقتصاديا وماليا لمصالح المؤسسات المالية والنقدية الدولية الجشعة، مؤسسات الرأسمال المالي الربحية التي ليس في قاموسها إحترام لسيادة وطن او لكرامة شعب.