تشهد بناية مسرح الرشيد بطوابقها العشرة حركة تعمير غير مسبوقة، في جهد تطوعي ندر مثيله خلال السنوات التي مرت. وقد تكللت بالنجاح جهود المتطوعين من منتسبي دائرة السينما والمسرح، فنانين وفنيين وشغيلة في مختلف الاختصاصات، واعادت تعمير المسرح الذي شهد الحرائق والتخريب والنهب، شأن غيره من مؤسسات الدولة التي طالها فعلُ الحواسم المشين غداة الغزو الأمريكي للعراق وما اعقبه من احتلال، والتي نسيتها الحكومات المتعاقبة، التي كان آخر ما تفكر به هو الاهتمام بالثقافة وبيوتها والفن والمشتغلين في حقوله، باستثناء حالات محدودة في فترات معينة.
ولا يمكن ان نمر على مشاريع الدولة من دون التطرق الى الفساد، الذي لا يوفر فرصة دون ان يستغلها ويقضم التخصيصات ويترك تقارير الإنجاز ورقا يتلف في اقرب مفرمة قبل رميه في سلة المهملات. وهذا ما جرى للتخصيصات التي رصدت لتعمير المسرح أيام “بغداد عاصمة الثقافة العربية” في عام ٢٠١٣. فقد صرفت ملايين الدولارات، التي كان فيها ما يكفي لأعادة المجد لهذا الصرح الذي شهد اعراسا ثقافية حقيقية، شارك في صنعها فنانون عراقيون ومبدعون عرب كبار، مثل يوسف شاهين ومحسنة توفيق وفريد شوقي وحسين فهمي ونور الشريف. الا ان المبالغ التي رصدت له تسربت الى جيوب الفاسدين والمنتفعين.
وها ان الايادي النظيفة والقلوب النزيهة تنفق اقل من ٣ بالمائة من تلك المبالغ لهذا التعمير، مع ان الأموال هي تبرعات تجمع من مؤسسات وشخصيات وطنية، وتصرف بحرص بالغ، وتكشف بشفافية كاملة.
لقد ازيحت الانقضاض وامتدت يد التعمير الحريصة لإصلاح الاضرار البليغة، وابعد الخراب عن الصرح الثقافي الكبير، وهو الخراب الذي لم تبصره عيون المسؤولين رغم انه في مرمى عيونهم من قصور حكمهم الباذخة!
وقد ابدع شغيلة الفكر واليد، والمشتغلون في الثقافة والفن، في الانتصار على الخراب والرثاثة والتوجه نحو صناعة الجمال. ودفعهم النجاح الى الاستمرار في التعمير، وتقدموا في جهودهم وواصلوا تعمير الطوابق طابقا تلو طابق، مسجلين نجاحا يليق بالحريصين على بناء بلدهم.
وانا لا انظر الى إعادة تعمير مسرح الرشيد، بطوابقه العشرة، الا باعتباره انتصارا لقيمة مهمة، هي قدرة العراقيين على البناء والتعمير وصناعة الجمال، والانتصار على التفاهة والخراب، شرط ان تكون الإدارة نزيهة، وان يكون الشخص المناسب في المكان المناسب.
انه درس من دورس الاحتجاج على قيم الرذيلة والفساد والاتكالية والانانية، هذه القيم السلبية التي هي من تداعيات الأوضاع المزرية التي مر بها العراق، جراء الحروب والحصار والصراع الطائفي.
هكذا تمكنت الهمة العراقية والحرص النبيل والجهد الكبير، ومعها العناد العنيد من تبديد الظلام الذي اريد له ان يخيم على مسرح الرشيد.
انه درس نبيل للإرادة الثقافية، درس محدد لكنه غير محدود، ومطلوب تعميمه لتخليص العراق من الرثاثة والخراب، تأكيدا لما قالته انتفاضة تشرين الباسلة حول إمكانية إعادة البناء والاعمار والتنمية.
وهو درس لخص إمكانية الفوز على اليأس والقنوط واللامبالاة، درس تضحية ونكرات ذات، درس ايادٍ نظيفة وقلوب نزيهة، درس جميل في حب العراق.