أماطت الماركسية لأول مرة في تاريخ البشرية اللثام ونزعت كل الحجب عن الدولة المؤلهة المقدسة الموضوعة فوق الطبقات. أي ان الماركسية، انزلت الدولة من سماء الحياد المجلل بالضباب الى حيث هي في الواقع، الى معمعان الصراع الطبقي الذي تمثل فيه قيادة اركان الفئة (أو الطبقة او التحالف الطبقي) السائدة في مرحلة تاريخية معينة.
ومن المؤكد، قبل كل شيء، الاشارة الى أن ماركس وأنجلس لم يكونا “ماركسيين” منذ الولادة، وهو قول ينبغي ان لا يفاجئ أحدا. لقد كانا مضطرين الى تذليل الكثير من الصعاب بهدف صياغة الموضوعات الاساسية للنظرية الماركسية. وفي هذا الصدد فإن نظرية الدولة لا تشكل استثناء. لقد كانت الخطوة الجوهرية على طريق صياغة هذه النظرية (وان لم تكتمل) هو التغلب على المفهوم الهيغلي للدولة والقانون الذي كان يرى في الدولة مؤسسة جامدة خالدة، “روحا” مفروضة على المجتمع من الخارج، في حين اكتشف ماركس في العلاقات الاجتماعية المادية مصدر سلطة الدولة، مصدر الدول. ويتمثل هذا المصدر في اشكالية المصالح المادية لمختلف الطبقات الاجتماعية، والتي من بينها سيطرة احدى الطبقات اقتصاديا على الأخرى، وهذه السيطرة تعني اساسا هيمنة البناء الفوقي على السيطرة الاكثر أساسية، أي السيطرة الاقتصادية. وإذا كان الأمر كذلك فان الدولة بالنتيجة، خلافا لما يبدو ظاهريا، هي ليست شيئا مستقلا، بل انها أداة غير مباشرة بيد الطبقة المسيطرة اقتصاديا في مجتمع ما. وهذا التشخيص هو رد على التصور البرجوازي الاصلاحي للدولة المتجسد في عزلتها عن شروطها المادية والتهرب، بمختلف اشكال التحايل، عن تحديد مضمونها الطبقي ورفعها الى سماء “الحياد المبجل” فوق الطبقات.
حول جوهر الدولة
بداية، يتعين التأكيد على أن الدولة ليست تنظيما للمجتمع بأسره، كما يشاع، وإنما هي تنظيم داخل المجتمع، مسلح بقوة القمع والقسر. ولم يصبح مثل هذا التنظيم ضروريا إلا حينما انقسم المجتمع الى طبقات متناحرة، فمنذ ذلك الحين اصبحت الدولة ضرورية كـ “سلطة خاصة” لمنع التناقضات الاجتماعية من ان تنفجر وتمزق مجتمعا محددا وتدمره وبالتالي الاطاحة بسلطة الطبقة المسيطرة وهذا هو الاهم. وفي هذا الصدد كتب أنجلس في “ اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”: يقول: “ .. الدولة هي مفتاح المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة هي افصاح عن واقع ان هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكن حله، عن واقع ان هذا المجتمع قد انقسم الى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضا والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الامر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود “ النظام “. ان هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه اكثر فأكثر هي الدولة”.
وبما أن الدولة قد نشأت عن الحاجة الى كبح جماح التناقضات الطبقية، وبما انها نشأت في ذات الوقت في خضم الصراعات بين الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الاقوى السائدة سياسيا والتي تصبح عن طريق الدولة، الطبقة السائدة اقتصاديا. وبهذه الوسيلة تكتسب الطبقة المهيمنة وسائل جديدة لقمع الطبقة (او الطبقات والفئات والشرائح) المستغَلة (بفتح الغين) واستغلالها. ومن المفيد التذكير بان ماركس وأنجلس هما اول من ادخل الى القاموس السياسي مفهوم الدولة كأداة او كآلة قمعية. ان هذا المفهوم يرجع ايضا الى الصراع الطبقي (الذي اعتبره ماركس القوة المحركة للتاريخ) ولكن وفق كيفية أخرى: ليس بوصفه تعبيرا عن الصراع الطبقي، او عن انقسام المجتمع الى طبقات، بل بوصفها (أي الدولة) اداة في الصراع الطبقي، في خدمة الطبقة المسيطرة بالمعنى “التقني” للكلمة. لذلك يمكن القول ان الدولة اداة اضطهاد وسيطرة طبقية بأجهزتها وتقنياتها، ولكنها ليست مجرد ناقل لـ “إرادة” طبقية. يجب اذن دراسة الدولة، في بنيتها، بمثابة دولة طبقية، دولة تتوافق مع وجود تناقضات طبقية، ومخصصة لإعادة انتاجها في “أحسن الظروف” (أندرية توزيل، سيزار لوبوريني، آيتين باليبار، ماركس ونقده للسياسة). وقد توصل ماركس في “الآيديولوجيا الألمانية” الى تحديد الاشكالية الجديدة لإعادة انتاج الشروط الاجتماعية للإنتاج وأشكاله التاريخية. تتماثل هذه الاشكال مع اشكالية الصراع الطبقي: ليست الظواهر التاريخية إلا اشكالا متنوعة ومعقدة للصراع الطبقي، والصراع الطبقي هذا هو الذي يحدد وجود الطبقات، وليس العكس، ويتحدد مجموع الصراعات الطبقية في نهاية المطاف بالصراع الطبقي الاقتصادي في الانتاج. وفي هذا الصدد تبرز الدولة باعتبارها عامل تماسك التشكيلة الاجتماعية بهدف اعادة انتاج شروط انتاج النظام الذي يحدد هيمنة طبقة على أخرى.
ومن جانب اخر فان “السلطة العامة” كما هو معلوم تعود الى الطبقة السائدة اقتصاديا، ومن جراء ذلك تصبح الطبقة السائدة سياسيا. تتحقق هذه السلطة على الصعيد التنظيمي بصورة “فصيلة خاصة” من الناس تتركز في يدها مقابض ادارة المجتمع. وبهذا الصدد كتب (ماركس) قائلا: “ان وجود سلطة الدولة يجد تعبيرا عنه على وجهه الدقة في موظفيها، وجيشها، وإدارتها، وقضائها، وإذا تجردت من صورتها المجسدة هذه، فإنها لن تكون سوى ظل، سوى خيال، مجرد اسم”.
على ان من الضروري الاشارة طبعا الى ان التحليل اعلاه لا يعني القول بعدم وجود أي “تفاوت” بين مصالح الطبقة المسيطرة وقرارات الدولة، إذ ان هذه الاخيرة ليست مجرد أداة طيعة وعملية: فهي تبذل مقاومات تبقي عليها التناقضات الداخلية الناشئة في اطار الطبقة المسيطرة. وبما ان الدولة ليست آلة تحكمها بعض الفئات المهيمنة، بل انها اكثر تعقيدا في تمثيل المصالح التي تحققها وفي عملها الملموس، لذا يجب اذن ان يترافق تحليل البنية الطبقية للدولة بتحليل ملموس للأشكال التي تتخذها هذه السيطرة. ولهذا فان الماركسية تنطلق من تعريف طراز الدولة، من طابعها المميز. كما ان السمة المميزة للعلم الماركسي حول طراز الدولة، هو انه يركز انتباهه لا على الظاهرات الثانوية والمشتقة، في الحياة السياسية، بل على قوانينها الداخلية الجوهرية، أي استجلاء القوانين الموضوعية للتطور التاريخي لهذه الظاهرة الاجتماعية المعقدة، التي هي الدولة. اذن ليست من قبيل الصدفة ان لا تستخدم النظرية الماركسية في منظومة جهازها المفاهيمي المقولة المجردة “طراز الدولة”، بل تستخدم مقولة “طراز الدولة التاريخي”، هذه المقولة التي تعكس العمليات الاجتماعية الفعلية والتي ترتبط بمفهوم التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية في وضع تاريخي محدد (تشيريكين، جيدكوف، يودين، أسس النظرية الاشتراكية بصدد الدولة والحق، ص 54 ولاحقا).
ومن الضروري ايضا التذكير بأنه وعندما يجري الحديث عن استقلالية أجهزة الدولة فان ذلك لا يعني استقلالها عن الطبقات المتصارعة، بل عن الفئات الطبقية المسيطرة. فاستقلال أجهزة الدولة لا يكون إلا في تبعيتها المباشرة للطبقة المسيطرة ككل. معنى هذا أن استقلالها النسبي يتيح لها ضبط تطور التناقضات الثانوية بين فئات الطبقة المسيطرة ومنعها من أن تنفجر بشكل يهدد علاقة السيطرة الطبقية نفسها حين تعجز فئة أو طبقة عن فرض هيمنتها الطبقية داخل الطبقة المسيطرة (أو الائتلاف الطبقي المهيمن). إن التدخل المباشر لأجهزة الدولة هو، إذن، لإنقاذ الوجود المسيطر للطبقة السائدة، بتحقيق الهيمنة الطبقية للفئة المهيمنة فيها، والتي تعجز، في ظروف تاريخية محددة، من فرض هيمنتها. في مثل هذه الظروف التاريخية يختفي الشكل “الديمقراطي” للممارسة السياسية للطبقة المسيطرة، ويبرز الشكل الدكتاتوري المباشر الذي يضمن المنطق نفسه لهذه الممارسة السياسية. فالعلاقة بين الديمقراطية والدكتاتورية هي إذن خاصة بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة.