يحق للمرء أن يرتاب بالدافع الذي دفع "معنيين" في مجلس النواب أن يغيروا النص الأصلي لمشروع قانون مؤسسة السجناء السياسيين المرسل من جانب مجلس الوزراء والمتضمن شمول السجناء السياسيين لعام 1963. وما من أحد يعرف أي أساس قانوني أو حقوقي استندت اليه اللجنة البرلمانية المختصة في تغييرها النص الأصلي، وبالتالي حرمان الآلاف من ضحايا الفاشية من حقوقهم. وكان من الطبيعي أن يعترض حزبنا الشيوعي على القراءة الأولى لصيغة القانون التي تم توزيعها في مجلس النواب، وهي مختلفة عن الصيغة السابقة "الأعدل والأشمل"، والتي "حظيت بموافقة مجلس شورى الدولة، وتتضمن الاشارة الى الضحايا الذين تضرروا من الأنظمة السابقة منذ عام 1963، وهي تنصف شريحة واسعة من المواطنين"، وفقا لمداخلة قدمها الرفيق حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب يوم السادس من كانون الثاني الحالي في المجلس.
والحق إن هذا السلوك يكشف، من بين دلالات وحقائق مريرة أخرى، عن الانحدار الذي وصل اليه من يخشون حتى من إنصاف ضحايا الفاشية، والمآل الذي آل اليه بعض "ممثلي الشعب" ممن يفترض أن يبرروا الثقة التي منحها إياهم الملايين فيدافعوا عن حقوق المظلومين، لا أن يستهينوا بها ويتجاوزوا عليها.
لقد تساءل محلل من ضحايا انقلاب 8 شباط عن سر حرمان هؤلاء الضحايا من حقوقهم، وهو حرمان يبرر، شئنا أم أبينا، السلوك الاجرامي لمن جاءوا بقطار أميركي عام 1963 أوصلهم الى محطات ارتكاب المجازر المروعة بحق الوطنيين الخلّص.
ولا ريب أن من بين من يهللون لهذا الحرمان المقيت بعثيين صداميين أو أبناء هذا البعث الفاشي ممن لابد أن يشكل إنصاف ضحاياهم إدانة لهم، وهم الذين نشروا منذ انقلابهم الدموي غيوم الموت تحت شعار الحلف غير المقدس "يا أعداء الشيوعية اتحدوا". ولا يستغرب المرء أن يكون بين المتعاطفين مع هذا الشعار سيء الصيت من أضحوا فرسان "وطنية" في هذا الزمن العجيب. ومن يدري فقد يكون بينهم "فرسان" في شباط الأسود، أو أبناء أو أحفاد أوفياء لأولئك "الفرسان".
ويعرف الضحايا ومن أرخوا لهذه الفترة العصيبة من تاريخ بلادنا أن "عروس الثورات" كانت الصفحة السوداء الأولى في ثقافة التصفيات الجسدية والاغتصاب وتحطيم الانسان معنوياً وتخريب روحه، وإشاعة ثقافة العنف التي بدأت بتشريع "إبادة الشيوعيين"، وكشفت عن الموجة الأولى من طاعون "البعث الفاشي" الذي مازالت عواقبه المادية والثقافية والسايكولوجية المدمرة قائمة في مجتمعنا، الضحية طيلة أربعة عقود من الزمن.
أما مهندسو الحرمان فقد راحوا يميزون بين شهيد وشهيد، ويضعون للضحايا "طبقات" يدخلونها في اختبارات بينها "التسييس" حتى ينصفوا بعضاً ويحرموا آخرين، بينما يستمرون في إدعائهم الدفاع عن حقوق الناس دون تمييز.
وما دامت عاقبة التسييس، الذي يشيع على أيدي المتنفذين، تنخر الحياة السياسية، وتغذي التمييز بين الناس، لن يجد المنصفون يسراً في إنصاف الضحايا. ومادامت "طبقات" البرلمان في نعيم، فلن يعني جحيم الآخرين شيئاً. وانطلاقاً مما تفرضه منهجية المحاصصات لابد أن يكون الانتماء الحزبي الى قوة سياسية متنفذة المعيار في اعتبار الضحية من الدرجة الأولى أو اعتبار السجين سياسياً، وبالتالي يجري ضمان حقوقه، أو اعتباره من الدرجة الثانية، وعندئذ لا يندر أن يكون مصيره الحرمان، وهذه هي عاقبة التسييس الذي بات مكوناً بارزاً في لوحة سياسية معقدة. هذا ناهيكم عمن قدموا أوراقاً مشكوكاً في صحتها لينتموا الى "طبقات" الدرجة الأولى، بينما ظل كثير من الضحايا الحقيقيين في "طبقات" الدرجة الثانية. وقد يصل الأمر الى حد أن يتلقى جلادون "حقوقهم المشروعة"، بينما يُحرَم ضحاياهم من هذه الحقوق، وشر البلية ما يضحك.
* * *
اذا كانت الجراح تندمل وتشفى فان نواقيس الذاكرة تظل تقرع، مذكّرة بالطاعون الأول ومحذرة من طاعون "جديد". ولن يمكن لشعب خبر دمار الفاشية أن ينسى الشهداء والضحايا، ويصمت على جرائم من اقترفوا أعظم الكوارث في تاريخنا الحديث. ولا يمكنه أن ينسى مآثر أولئك الشيوعيين الذين أذهل صمودهم الجلادين، وماتوا تحت التعذيب وكانت أياديهم ممسكة براية الكفاح والتحدي والحياة مرفوعة، ولا مآثر أولئك الذين هبّوا لمقاومة زحف الجراد الفاشي على شمس تموز، ولا معاناة عشرات الألوف ممن تعرضوا الى العسف والسجن والاضطهاد.
آن الأوان اليوم لانصافهم بعد أن ظلوا محرومين من حقوقهم طيلة عقود أربعة خيّم فيها ليل الفاشية على بلاد الآلام والمآسي.
أولئك الضحايا الذين ظلوا وتلاميذهم وأحفادهم أصحاب الأيادي البيضاء، والعائدين الى الينابيع والرايات، والمواصلين الأمثولة في طريق سلام عادل، سيفضحون العدالة المشبوهة التي تميز بين الضحايا، وسينتزعون، بكفاحهم، الحق الذي يستحقون، فشعبهم قد وضع على صدورهم وسام الاستحقاق هذا، وهو أرفع وسام.
أما أولئك المستعدون لمصافحة يد البعث الفاشي المصابة بالجذام فينتمون، هم أنفسهم، الى تلك الزمرة المقيتة التي تعرقل إنصاف ضحايا شباط الأسود من خيرة بنات وأبناء الشعب من شيوعيين ووطنيين حقيقيين يشهد التاريخ أنهم، بتضحياتهم، الأعلون ..
طريق الشعب
كتب بتأريخ : الثلاثاء 19-01-2010
عدد القراء : 2358
عدد التعليقات : 0