لم تعد خافية صور الحرمان والجوع الكافر والألم، صور أطفال عراقيين مكانهم المدارس لكنهم ينتشرون منذ ساعات الصباح الأولى في مكبات القمامة في أطراف بغداد ومراكز المحافظات العراقية، وصور كبار سن مثلهم يستحقون تقاعدا مجزيا يحفظ كرامتهم ويؤمن لهم الراحة بعد شقاء عمر طويل.
صور تعكس خسة طغمة الحكم وانعدام الضمير عندها، وقد سلبت كرامة المواطنين بنهبها الأموال العامة، التي لهؤلاء الأطفال وكبار السن حق فيها.
صور أطفال احياء الصفيح وهم يتكدسون على تلال النفايات ويتزاحمون على سيارات القمامة، عسى ان يحصلوا على ما يسد الرمق، مشكلين واقع القهر والامتهان والالم في آن، مما لا يشعر به منظرو “الورقة بالبيضاء”.
لم يتمكن المطبلون لإنجازات الحكومات المتعاقبة ومزيفو الحقائق، من محو هذا كله وغيره. وقد عرّتهم الصور التي أظهرت الأطفال شبه العراة تحت لهب الشمس الحارق، وعرّت نهبهم وحكمهم باسم انهاء الحيف ورفع المظلومية عن فقراء العراق. صور الادانة ستلاحق كل حاكم يعلم بحجم موارد العراق ويدرك ثراءه، لكنه يتجاهل الجوع الكافر الذي يحاصر ملايين العراقيين، الذين يعيشون الصراع الدائم مع الفقر المدقع.
صور تحاصر كل ذي ضمير، وتصرخ من ذلّ رحلة غبش الفجر نحو مزابل المدن. صور لفداحة الادانة التي يستحقها كل مسؤول فاسد او متلكئ او فاقد كفاءة، أتت به المحاصصة والولاءات الحزبوية والتبعية المهينة.
صور اضطرت مفوضية حقوق الانسان، وهي مؤسسة رسمية، الى تشكيل فرق لإجراء “زيارات ميدانية الى مواقع الطمر الصحي، للتقصي عن الواقع الانساني للقاطنين فيها ممن هم دون مستوى خط الفقر”، حسب تصريح عضو مجلس المفوضية زيدان العطواني، الذي اشار الى أن “الكثير من الأطفال وكبار السن يعتاشون على نبش مخلفات هذه المواقع من نفايات ومواد بلاستيكية وغيرها وسط بيئة ملوثة”.
لا يبدو ان صفحات “الورقة البيضاء” تركت مجالا للنظر في أحوال هؤلاء العراقيين، كما لم تشملهم بحلولها التي أطرب عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، هذه المؤسسات المعروفة بوصفاتها “الإصلاحية”! التي أذاقت الشعوب المغلوبة الفقر والذل، غداة انصياع حكامها وتنفيذهم “وصفاتها”. وهي الوصفات التي تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، وتدفع تلاميذ تلك المؤسسات المالية العالمية الى تطبيق اشتراطاتها القاسية، بدءا بخفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار لمصلحة مضاربي العملة وأصحاب البنوك، مقابل فتح باب جهنم على الفقراء ومحدودي الدخل عبر الارتفاع الجنوبي بالأسعار.
وتبرهن صور تزاحم الأطفال حول اكوام القمامة على فشل الصندوق الاجتماعي للتنمية الذي سبق وأطلقته وزارة التخطيط بالتنسيق مع البنك الدولي، بهدف تحسين الظروف المعيشية للفقراء والمهمشين. فلا خدمات قدمت لهم، ولا فرص عمل وفرت للعاطلين، كما وعدوا بذلك قبل أعوام.
ان صور أطفال العراق وهم يتنافسون على “لقى” من المخلفات المعدنية التي ترمى في المزابل، هي صور الادانة لنظام المحاصصة والفساد والانتهاك السافر للقوانين الدولية المتعلقة بالطفولة وحقوقها، وبضمنها إعلان ١٩٨٩، الذي يثبت حقوق الطفل في الحماية والتعليم والرعاية الصحية والمأوى والتغذية الجيدة.