قرأت عن نيلسون منديلا انه قال مرة: “لا يدافع عن الفاسد الا فاسد، ولا عن الساقط الا ساقط، ولا عن الحرية الا الاحرار، ولا عن الثورة الا الابطال”. فهل كان هذا القائد العظيم يتحدث عن العراق أيضا، وعن الفساد والفاسدين والمفسدين فيه؟
التشخيص صائب تماما فالفاسدون ليسوا وحدهم، ولذا تأتي مطالبة الوطنيين والمنتفضين والمحتجين ليس فقط بالكشف عن الفاسدين، وانما عن المنظومة والقوى والجهات التي تقف وراءهم وتوفر الغطاء لهم وتحميهم من المساءلة والملاحقة القانونية.
والفساد هو الابن الشرعي لمنظومة المحاصصة، حيث تتبلور يوما بعد آخر ملامح اقلية مهيمنة مسيطرة، ونرى على نحو افضل التعشيق بين المتنفذين وأصحاب القرار والنفوذ والفاسدين، وكبار أصحاب المال، والمهيمنين على وسائل الاعلام، والبيروقراطيين في أجهزة الدولة، العسكرية والأمنية، وقد يتفرد العراق في كون الفساد فيه يحظى بحاضنات وامتدادات خارجية أيضا.
الفساد ظاهرة متفشية يصعب الحديث عن معالجة ناجعة وشاملة لها من دون الخلاص من الحاضنة، التي توفر لها الدفء والحماية. وهنا الحديث يدور عن منظومة متشعبة ومهيمنة، اخذت تستند على نحو واسع الى سلاح منفلت، بما يؤشر تخادما واضحا لا ريب فيه.
ومع وجود هذه الظاهرة المخيفة بهذه السعة والانتشار، فان الحديث عن خطط ومشاريع بناء وتنمية يبقى محض كلام، لا تسنده حركة الواقع. وان ما اتخذ من إجراءات تصدٍّ للظاهرة ظل محدودا وفي أحيان كثيرة استعراضيا اكثر منه جديا. فاية معالجة تستهدف قصم ظهور الفاسدين ومن يقف وراءهم، لابد ان تبدأ بملفات أساسية معروفة، واصحابها معروفون أيضا. باختصار ان تبدأ من فوق، من أعلى، تماما كما تنظف السلالم.
والفساد يستنزف موارد العراق، فتهريب العملة عبر مزاد البنك المركزي حسب التصريحات الرسمية وصل الى ٩٦ مليار شهريا، وقالت عنه هيئة النزاهة في بداية العام الجاري انه بلغ ٣٥٠ مليار دولار خلال ١٧ عاما. فيما قالت اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء لمكافحة الفساد، ان حوالي ٥٠٠ مليار دولار تم نهبها منذ ٢٠٠٣حتى ٢٠٢٠ عبر عقود واستثمارات وهمية من قبل مؤسسات الدولة، في حين اعلن رئيس الجمهورية ان حجم الأموال التي تم تهريبها الى الخارج في صفقات الفساد يقدر بحوالي ١٥٠ مليار دولار. اما منظمة الشفافية الدولية فقد وضعت العراق ضمن قائمة الدول الخمس الأكثر فسادا في العالم، وقدرت الأموال التي تمت سرقتها خلال ١٨ عاما بما يقرب من ترليون دولار .
اننا امام ظاهرة كبرى ومبالغ مسروقة تعمر عدة بلدان وليس العراق وحده. وهذا هو السبب الأساس لما نشهده من تدهور مريع في القطاعات الاقتصادية والمعيشية والصحية والخدمية، وهو تدهور متواصل، ويجدر البحث أولا عن عوامله الداخلية والتصدي لها، قبل ان نعلق هشاشة أوضاع بلدنا على شماعة الغير، ممن يبحث دون شك عن مصالحه. فأين مصلحة شعبنا وبلدنا أيها المتنفذون ؟!
وبما اننا قاب قوسين او ادنى من الانتخابات، يحق لنا ان نسأل: هل تجوز إعادة انتخاب من تسبب بهذا كله؟! ولقد آن أوان أن يعي المواطن جيدا، ان معاناته اليوم في الكهرباء يقف وراءها أساسا الفاسدون ومن يحميهم. فهل سيعطيهم صوته من جديد تحت عناوين فرعية على حساب معاناته وشقائه، فيما المتنفذون يزدادون ثراء وتخمة؟!