في ظل التنافس الكبير والحاد الجاري في هذه الأيام، حتى السابع من آذار 2010، يجري الحديث ليس فقط عن الانتخابات البرلمانية ومستلزماتها القانونية لضمان نزاهتها ونظافتها من أي تدخل للتأثير على نتائجها، بقصد الوصول إلى التعبير الأقصى الممكن عن ديمقراطية الممارسة في العراق الجديد. بل يجري الحديث عن عناصر رئيسية وثانوية تتعلق بطراز الانتخابات ومستوى احتمالات التدخل المباشر وغير المباشر فيها.
كثيرة هي الأمور والنقاط التي تجد نفسها على بساط البحث أو التحذير أو أن بعضهم يقوم بتوظيفها ميكانيكيا في ميزان الانتخابات كي تكون الكفة مائلة لصالحه. ربما في مقالات قادمة سأتناول بالتناوب العديد من تلك الأمور والنقاط التي تنتهي إلى توليد إجراءات وخطوات انتخابية غير مشروعة، لكنني، هنا، أود الحديث عن علاقة ٍ ما من العلاقات المؤثرة طبقيا على نتائج الانتخابات وعن دور المال السياسي (المال الانتخابي – إن صح التعبير) في رفع أسهم بعض المرشحين وفي انخفاض بعضها لدى آخرين. لا بد لي من الإشارة، أولا وقبل كل شيء، إلى أن (المال الانتخابي) ودوره هما ليسا من صنعة الظروف الحالية، أي ظروف ما بعد سقوط دكتاتورية صدام حسين، بل هما شيء من الموروث الانتخابي العراقي منذ عشرينات القرن الماضي وقد ظل هذا الموروث حرا في (استخدام المال السياسي) داخل نظام التصويت وفي طريقته وفي وظيفته وبالتالي في حجمه و قدرته على إنتاج دورات برلمانية مقاسة حسب الطلب والحاجة كي تعبد الطريق لحكام ذلك الزمان لتحقيق السعادة البرلمانية التامة لجميع أعضاء المجالس النيابية المتعاقبة.
يصح القول من خلال التجارب العملية الكثيرة في انتخابات ذلك الزمان أنها كانت تتم بدون قيود معتمدة على الموروث المعني (الرشاوى وشراء الذمم) الذي كانت تمارسه الصفوة السياسية – الإقطاعية في العهد الملكي ليوفر ليبرالية الدور الاستثماري في المال السياسي، المال الانتخابي تحديدا، أي (الصوت الانتخابي مقابل ثمن).
كما كنت قد شاهدتها بأم عيني خلال عدة دورات انتخابية بين 1949 و1957 كانت الانتخابات النيابية طيلة العهد الملكي 1920- 1958 هي حركة تتعادل فيها (الكثير) من مصالح الشراكة بين (الكثير) من المرشحين و(الكثير) من الناخبين وقد كانت اللغة المستخدمة في هذه الشراكة هي، لغة استثمارية خاصة، لكنها مباشرة، أي لغة المساومة التي يلعب فيها (المال السياسي) دور قوة خفية من جهة، وتلعب فيها بجانبه أساليب العنف البوليسي كقوة غير خفية في العلاقة بين المرشحين والناخبين لتسوية ارض الساحة الانتخابية بلا معارضة ولا معوقات.
ربما يأتي إلى ذهن البعض من القراء وغيرهم أن هذا (الموروث) قد تغير في ما بعد عام 2003 وبالذات في انتخابات عام 2005 حيث توفرت بعض مظاهر الحرية والديمقراطية في ميادين العلاقة بين الانتخابات والسياسيين، بين الانتخابات والدولة، بين الانتخابات والأحزاب، بين المؤسسات الانتخابية المستقلة والناخبين من جهة، وبينها والمرشحين من جهة أخرى.
نعم هذا كلام صحيح وتشخيص صائب غير أن تغييرا أساسيا قد جرى في العملية الاستهلاكية الانتخابية قائما بالدرجة الأولى على (خصخصتها) بمعنى أن رقاص بندول الانتخابات تحرك من يد الدولة في انتخابات العهدين الملكي والصدامي إلى يد القوى السياسية ذات الأكثرية في السلطتين التنفيذية والتشريعية المتنفذتين في العملية السياسية الراهنة. هذا النوع من الخصخصة اللاعبة في بورصة المحاصصة السياسية طيلة السنوات الست الماضية قد وفر دورا كبيرا للمال السياسي الذي طغى على إرادة الكثير من أبناء الشعب سواء في ورش صناعة القرارات السياسية، خلف الكواليس، أو في ورش الإعداد السريع لكثير من التشريعات ومنها قانون الانتخابات المعدل في جلسة مجلس النواب في 6 – 12 – 2009 الذي حطم واجهات أمامية أساسية في الديمقراطية البرلمانية.
في ظل كل نظام رأسمالي، ومنها نظام بلدنا العراق الجديد، يتغذى حلم صغار وكبار الرأسماليين الدائم بـ"المال " بل بتكبير حجم وقدر المال المتجمع بأقصر فترة ممكنة واستخدامه سياسيا، مثلما يتغذى حلم الكثير من الوزراء والنواب بالمال أيضا خصوصا في ظل ظروف اجتماعية لا تساعد على تنمية الوعي الديمقراطي إلا بنطاق ضيق جدا، أي بحدود بعض النخب وداخل الأحزاب الديمقراطية التي تعتمد في برامجها على تقاليد العمل الوطني الديمقراطي الأصيل. ملخص القول أن كل نوع من أنواع الدعاية الانتخابية وكل نوع من أنواع التعبئة الانتخابية يعتمد عند الحالمين الرأسماليين على طرق تقديس جوهر المال السياسي في العملية الانتخابية وهو تقديس حذر وسري وغير مرئي في غالب الأحيان.
المال في الساحة الانتخابية غالبا ما يكون قوة سياسية تعبوية وقوة اقتصادية تحريكية وقوة اجتماعية استغلالية. وقد قال المفكر الفرنسي موريس دفرجيه واصفا المال السياسي في العمليات الانتخابية بأنه صورة كاريكاتيرية للواقع السياسي في النظام الرأسمالي حيث يصبح هذا المال في فترات الانتخابات قابلا للاستخدام سلاحا في المعركة كالوسائل العسكرية، بمعنى القدرة على التأثير في النتائج الانتخابية.
لقد أصبح في القرن التاسع عشر ممكنا شراء مقعد من الناخبين في الدوائر الانتخابية الفقيرة في انكلترا، كما اشتريت بعض مقاعد مجلس الشيوخ أبان الجمهورية الثالثة والرابعة في فرنسا الديمقراطية، وغير ذلك من الأمثلة في عدد من الدول الرأسمالية الأخرى حيث غدا فيها المال السياسي أداة من أدوات الحصول على السلطة.
مثل هذه الاحتمالات واردة في بلدنا المتحرر حديثا من السلطة التوليتارية والمتجه بقوة نحو بناء الرأسمالية (الرأسمالية الفوضوية في هذه المرحلة) إذ يتيح المال السياسي هنا فرص شراء ضمائر وصحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية فضائية وأرضية وحملات دعاية متنوعة بالإضافة إلى إمكانية شراء رجال سياسيين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا غرابة أن نجد بعض رجال السياسة يغيرون قبيل الانتخابات مواقعهم من موقع إلى آخر، من كتلة إلى أخرى، سعيا وراء الحصول على منصب برلماني أو وزاري أو دبلوماسي.
بهذا يتحول المال السياسي إلى سلاح سياسي، كما تتطور العلاقة من خلال ذلك بين بعض السياسيين الراكضين وراء السلطة إلى البحث عن مصادر المال السياسي – الانتخابي حتى لو كان هذا المصدر عربيا أو من دول الجوار أو من جهات أجنبية، تحاول جميعها أن ترفع إلى السلطة أناسا موضع ثقتهم وثقة مخططاتهم أكثر من ثقتهم بوطنيتهم. بصورة عامة فأن هناك شكلا واضحا من أشكال العلاقة بين حجم المال السياسي – الانتخابي وحجم المقاعد التي يحتجزها داخل السلطة.
من الطبيعي التأكيد، هنا، أن ليس كل المال السياسي مشكوك بوطنيته أي أن جميعه قادم من الخارج. ففي مجتمعنا العراقي الناشط تجاريا بعد عام 2003 بصورة لم يسبق لها مثيل قد امتلك قاعدة رئيسية للثراء ولتسخير جزء كبير منه لضمان وصول بعض الشخصيات السياسية، الحزبية خصوصا، إلى دست السلطة أو إلى قبة البرلمان، كما أن حجما واسعا من هذا الثراء صار جزء من أموال بعض الأحزاب العراقية.
بهذا التسخير وضعت منذ عام 2005 قاعدة أساسية لتحقيق انتقال مجتمعنا من المجتمعات ما قبل البرلمانية الحقيقية إلى مجتمع مغطى ومموه بالديمقراطية البرلمانية القائمة على السعي الحزبي والسياسي الحثيث، لتحقيق اكبر معدلات الثراء التجاري حيث حل أغنياء جدد في مراكز القوة الاقتصادية محل أغنياء قدامى كانوا مرتبطين بأجهزة اقتصاد النظام السابق. لقد قامت طبقة بورجوازية جديدة بنت ثراءها عن طريق المقاولات وصفقات البنوك والتجارة الخارجية ومن خلال أشكال العلاقات التجارية والمقاولات مع قوات الاحتلال الأمريكي، أو من خلال تدفق البضائع الاستهلاكية من مناشىء مختلفة بوساطة مؤسسات تجارية خليجية وإيرانية، مع إهمال مؤقت للصناعة والزراعة، كما هو واقع القطاعين الصناعي والزراعي المهمل كليا في وسط وجنوب العراق، ما عدا بعض الخطط المطبقة نسبيا في إقليم كردستان، وما عدا بعض مشروعات النفط التي تم البدء بوضع أسسها في جولتي ما يسمى التراخيص الأولى والثانية.
البورجوازية السياسية الجديدة لا تموه في الوقت الحاضر على قيمها الساعية وراء ربط المال السياسي بالانتخابات البرلمانية، بمعنى أنها تعلن للناس عن طريق الشاشات الفضائية التي تملكها والإذاعات المحلية والصحف ومواقع الانترنت أيضا أنها تعتز بالمال السياسي لأنه مصدر رئيسي من مصادر القوة السياسية.
لا بد لي من الإشارة، هنا، أن نمو البورجوازيات العراقية المتعددة الأشكال والعقائد والأهداف نموا سريعا، يقابله نمو بطيء في القوى الديمقراطية، التي تعلن في الانتخابات برامج انتخابية متقاربة تسعى لتحقيقها تحت قبة البرلمان وفي السلطة التنفيذية أيضا. غير أن القيم المعتمدة لدى هذه القوى، نموذجها مثلا قائمة اتحاد الشعب، تختلف تماما عن قيم قوى وتكتلات وقوائم أخرى :
إن القيم التي ينادي بها الديمقراطيون في قائمة اتحاد الشعب لا تخضع بأي شكل من الأشكال لحركة المال السياسي، لا من داخلها ولا من خارجها.
لا يستخدم الديمقراطيون الحقيقيون أي نوع من أنواع المال لكسب أصوات الناخبين، بل يجري اعتماد الثقافة الديمقراطية وسيلة للتأييد الصوتي الجماهيري.
لا يستخدم الديمقراطيون المال سلاحا سياسيا في المعركة الانتخابية لأن قائمة اتحاد الشعب / مثلا تعتبر هذا الاستخدام طعنا مباشرا للعدل والمساواة بين المواطنين الناخبين.
إن استخدام المال السياسي إساءة كبيرة إلى الديمقراطية والى مسيرة الانتخابات على ضوء مبادئها.
بصورة عامة فأن استخدام المال السياسي يتناقض تناقضا كليا مع ابسط مبادئ الديمقراطية، التي تستنكر دور المال كسلاح سياسي أو كسلاح انتخابي، سواء بصورة علنية أو خفية لتمويل بعض الحملات ذات الاتجاهات المعينة، وشراء بعض الصحف المحلية أو العربية، وتسخير الإذاعة والتلفزيون بشراء ساعات من البث التلفزيوني في فضائيات واسعة الانتشار هدفها الترويج لبيع الذمم وشرائها.
مثل هذه الخطوات إذا ما جرت في الانتخابات القادمة كما حصل في انتخابات عام 2005 فأنها لا تعني غير إلحاق الأذى الفادح ليس فقط بالمبادئ الديمقراطية، بل بمؤسساتها وقوانينها أيضا. مثل هذا يذكرنا بالقيم الارستقراطية التي روجت في ديمقراطيات غربية قبل قرن من الزمان، خاصة ما يتعلق بدور النفوذ السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي حققه وما يزال المال الانتخابي، مما جعل لهذا النوع من المال الأمريكي مهابة كبرى ودورا حاسما في كل انتخابات أمريكية رئاسية.
إن الديمقراطيين العراقيين المنضوين تحت قائمة اتحاد الشعب لا يرون صوابا في تلك النظريات الرأسمالية التي تؤكد أن تأثير المال ضرورة في العملية السياسية الانتخابية وأن هذا التأثير هو شكل من أشكال الديمقراطية لأن من حق مالكي المال ممارسة التأثير السياسي بواسطته كما هو الحال في أمريكا وروسيا وايطاليا.
في الحقيقة أن نداء القرن التاسع عشر الموجه إلى السياسيين وفحواه : (عليكم بالثراء لكي تربحوا السياسة) ما زال قويا في البلدان الرأسمالية، ويصدق القول أن الأوضاع العراقية الحالية المكتسبة من الدول الرأسمالية العالمية ومن تجارب الدولتين الإسلاميتين الكبيرتين، إيران والسعودية، جعلت للمال السياسي ثقلا كبيرا مؤثرا بدرجة كبيرة في النتائج المتعلقة بعموم سياسة منطقة الشرق الأوسط.
هل هناك من بديل أمام القوى الديمقراطية العراقية المحرومة حتى الآن من شاشة تلفزيونية فضائية تنشر برامجها ديمقراطيا بين الناس في وقت صار فيه موعد الانتخابات البرلمانية قريبا مما يتوجب البحث عن (المادة والوسيلة) اللازمتين في التعبئة الانتخابية..؟
أجيب على هذا السؤال بالإيجاب فالقوى الديمقراطية العراقية ليس فقط لا تملك مالا ً سياسيا ً، بل أنها تعتبر أي شكل من أشكال استخدام المال السياسي ليس طريقا آمنا للديمقراطية وليس بمقدوره أن يحول ضوء شمس الحرية، التي ينعم بها شعبنا نسبيا في الوقت الحاضر، إلى طاقة إنتاجية حقيقية في ميدان العلاقات الديمقراطية الفسيحة بين الجماهير. لذلك أقول أن ليس هناك أمام قائمة اتحاد الشعب و ليس هناك داخل المشروع الانتخابي للقوى الديمقراطية غير النشاط اليومي بين الجماهير الشعبية، بصورة ذكية، غير متقطعة، صريحة في دعواتها، والتقدم ببرامج عملية. لا شك أن هناك حاجة أولية ماسة لاستخدام الوسائل الثقافية – الفنية المتعددة لتنمية الوعي الانتخابي كاستخدام الأغنيات العاطفية والوطنية وأن تكون بوسترات الدعاية الانتخابية متداولة بمختلف الأنواع بين الناخبين متميزة بابتسامة الثقة وليس بالوجوه المتجهمة. إن التجمعات الجماهيرية ذات الأعمال والنداءات الوطنية الجريئة القادرة على تحريك مستوى الأسئلة الذاتية بين الجماهير كل ذلك أمور مساعدة في تجميع القوى الانتخابية، خاصة قوى الفقراء العراقيين الذي يملكون وطنا غنيا لكنهم لم ينعموا بثرواته. ينبغي أن يعرف الجميع أن الأوطان لا تبنى من دون شجاعة الفقراء ووحدتهم وحركتهم، فكل الأوطان الغنية الآن بما فيها أمريكا بُنيت بالصفحات الأولى التي سطرها الكادحون الأمريكان أنفسهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ