بداية، يتعين التأكيد على انه بالرغم من المحاولات الكثيرة إلا أن مفهوم (طبيعة السلطة) مازال بعيدا عن الوضوح النظري، ناهيك عن الناحية المنهجية. ويؤكد ذلك بروز العديد من التعابير مثل: السلطة، سلطة الدولة، السلطة السياسية ..... الخ، والتي تعج بها الخطابات السياسية وتستخدم من دون تدقيق. هنا ينطرح سؤال بسيط : هل هذه المفاهيم عبارة عن مترادفات synonims تعبر عن ظاهرة (أو ظواهر محددة) أم لا ؟ فإذا كانت هذه التعابير/المفاهيم تعالج اشكالية محددة أو ظاهرة معينة فما هي “الضرورة الموضوعية” لهذه “التسميات” المختلفة ؟. واذا انطلقنا من مبدأ منهجي عام هو انه لكل مفهوم أو مقولة حقل محدد، عندها ينطرح سؤال آخر: هل تنتمي هذه المفاهيم لحقل واحد، وما هو مبرر هذا التداخل أو الاضطراب ؟.
ثمة ضرورة، أولا، للاشارة الى أن هناك اختلافا بين التعبير المجازي وبين المضمون المفاهيمي. تقتصي الحاجة الى رؤية هذه القضية والعمل على تدقيق المفهوم وفك الاشتباك – حسب سمير أمين – بين هذه المفاهيم وتبيان دقتها العلمية. ويبدو أن عدم الوضوح والاضطراب وتنوع التسميات مرده ليس غياب التسميات الملائمة، بل غياب مفاهيم اساسية، على حد قول المفكر الفلسطيني د.فيصل درّاج، لا يستكمل التحليل النظري ويتخذ مداه العلمي وحقله الملموس، إلا بوجود هذه المفاهيم.
منهجية دراسة السلطة السياسية
قبل المباشرة في العمل على ضبط مفهوم (السلطة السياسية) علينا أن نعرّف أولا ما المقصود بـ (السلطة)؟
هناك من يعرف (السلطة) على أنها قدرة طبقة أو مجموعة من الطبقات على تحقيق مصالحها الموضوعية. وهذه القدرة تتوقف على علاقات القوى وتوازن القوى في أي مجتمع. والمفهوم الماركسي للطبقات والسلطة يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم “المصالح الطبقية”.
وعندما نتحدث عن (السلطة) تنطرح اشكالية المعايير التي تستخدم لتحديد الاصول الطبقية للمجموعة أو الفئة الحاكمة، من هي.، من أين أتت؟، جذورها الطبقية؟، أي ينبغي فهم السلطة ضمن تحديد اطارها المرجعي. ولهذا فإن السلطة هنا هي علاقة قوى طبقية - حسب بولانتزاس (نيكوس بولانتزاس، الايديولوجية والسلطة. نموذج الدولة الفاشية، بيروت 1979). وانطلاقا من هذه الاطروحة يمكن القول أن الصراع الاجتماعي ومحوره الاساسي الصراع بين الطبقات الاجتماعية في المجتمع هو الاطار المرجعي لمفهوم السلطة هذا.
ويتعين فهم علاقات القوة هذه ليس باعتبارها علاقة بسيطة، خطية، إنما هي:
علاقة مركبة من جهة؛
وغير متكافئة، من جهة اخرى؛
وتحددها، في نهاية المطاف، القوة الاقتصادية، ثالثا.
وبالمقابل يتعين فهم حقيقة أن القوة السياسية أو القوة الآيديولوجية ليست مجرد تعبير بسيط عن القوة الاقتصادية أو انعكاس بسيط لها، بل يتعين فهمها في اطار العلاقة مع القوة الاقتصادية ضمن اشكالية (القاعدة/البناء الفوقي). فأحيانا، وكما تشير التجربة التاريخية، تكون احدى الطبقات هي المسيطرة اقتصاديا ولكن من دون أن تكون مسيطرة سياسيا، فتكون غير قادرة على تحقيق مصالحها السياسية أو الآيديولوجية. أو أن تكون هي المسيطرة آيديولوجياً دون ان تكون لها الهيمنة الاقتصادية أو السياسية.
وإذا أردنا القيام بمقاربة مكثفة نستطيع القول بأن التحليل التاريخي الملموس للسلطة السياسية يستحث التأكيد على العناصر التالية، التي بالرغم من بساطتها الظاهرية هامة جدا لفهم هذه الاشكالية “
ان السلطة السياسية في أي مجتمع هي نتاج العلاقات الاجتماعية الجوهرية فيه، علاقات الملكية والتقسيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي فإن هذه السلطة تكون محصلة للتناقضات الاجتماعية وكيفيات حلها، والتي تتجسد من خلال الطبقات ومصالحها. ومن هنا تتأتى ضرورة تناول السلطة السياسية باعتبارها علاقة قوة.
إن السلطة السياسية في المجتمعات ذات البنية الاجتماعية المتناقضة لم تكن أبدا محايدة حتى لو أعلن حائزو السلطة غير ذلك.
إن نمط توزيع السلطة يرتبط ارتباطا وثيقا بنمط توزيع الثروة، وان هناك علاقة جدلية بين السلطة والثروة تتضمن ضمن ما تتضمن أن حائزي احدهما يتطلعون الى الاخرى، كما أن فرصتهم تكون أكبر وأيسر من غيرهم في حيازة الأخرى. يلعب مقياس توزيع الثروة المادية (التحكم في وسائل الانتاج) الدور الاساسي في توزيع السلطة والنفوذ.
إن انبثاق سلطة سياسية معينة وتطورها يخضع لتراتب سياسي واجتماعي جديد يعتمد على عدة مقاييس، من بينها :
أ. مدى القدرة على تحقيق الحد الأدنى من التماسك الافقي بضمان الانخراط في مسلسل تطور نمط انتاج محدد تحت اشراف اجهزة الدولة ورعايتها.
ب. مدى القدرة على اختراق “المجتمع المدني” عموديا أي عبر شبكات “الولاءات الخاصة”، وبإكتساب “الزبائن والتابعين” واستقطاب وتوظيف أكثر ما يمكن من الارتباطات والولاءات الباقية، من اجل ضمان الحد الادنى من “الوحدة” لمجتمع ما زال يتطور. ولكن هل يمكن تصور اثبات واستمرار “سيطرة” السلطة السياسية من دون توفر الحد الادنى من “الشرعية” الذي يؤمن لها قدرة ما على الاختراق الافقي والعمودي للتكوين الاجتماعي ككل، في اتجاه خلق وإحياء مجال ما للهيمنة ؟ إن الاجابة على هذا السؤال تستدعي التأكيد على أن الحديث عن السلطة السياسية في مستواه الاكثر تركيزا هو حديث عن الدولة بوصفها التجسيد الرسمي للسلطة السياسية. إن اعادة انتاج سلطة الدولة لطبقة ما (أو جزء منها أو تحالف معين) يتعين اعادة تمثيلها في قيادة الدولة والتوسط لفرض غلبتها على بقية الطبقات. إن التمثيل والتوسط هنا هما نموذجان مؤسسيان محددان، ولا يمكن، بشكل عام، التقليل منهما بارجاعهما الى علاقات الانتاج فقط. فلا يمكن، بكل بساطة، اختزال الشكل السياسي لسلطة الدولة الى مجرد انعكاس خطي ومباشر لعلاقات انتاج معينة. ان قيام الدولة بالتوسط في العلاقات الاجتماعية يعني اضافة عنصر جديد الى العلاقات الطبقية. ولهذا تبدو صائبة اطروحة غرامشي التي يؤكد فيها على وجوب عدم الاكتفاء بالفهم “التقليدي” للدولة باعتبارها أداة “قوة” بل أنها “منظم” للهيمنة كذلك.
وبشكل عام، فقد مال التنظير الماركسي الى اضفاء اهمية كبرى على طابع جهاز الدولة، ولم تدرس، بما فيه الكفاية، اشكالية سلطة الدولة. وفي هذا المجال كان الفيلسوف الفرنسي الراحل ألتوسير يلح على أهمية التمييز بين “سلطة الدولة “ Pouvoir d’État و”جهاز الدولة” Appareil d’État حيث لا معنى لهذا الأخير دون وجود الأول. إذ يمكن أن يبقى جهاز الدولة في مكانه بينما تمسك وتحتفظ بسلطة الدولة طبقة من الطبقات أو تحالف طبقات أو أجزاء من طبقات معينة، فقط لأنها هدف صراع الطبقات السياسي. ويذكر ألتوسير أن التاريخ يثبت أنه رغم توالي “الثورات” التي تستهدف تلك السلطة من قبيل الثورات البورجوازية في القرن 19 وحتى بعد ثورة اجتماعية كثورة اكتوبر العظمى عام 1917 بقي جزء كبير من جهاز الدولة في مكانه بينما استولى على السلطة تحالف البرولتاريا والفلاحين الفقراء.
يحتل جهاز الدولة هذه المكانة الخاصة بالنسبة لمواقع السلطة، وذلك لسببين.
الاول هو ان كل نشاط تقوم به الدولة يتم من خلال جهاز الدولة. وهو، على هذا الاساس، يقدم منفذا للتحكم في نوعية تدخلات الدولة اقتصاديا وآيديولوجيا.
والامر الثاني يتعلق بحقيقة أن جهاز الدولة، باعتباره التكثيف المادي للعلاقات الطبقية، يوفر القاعدة الاستراتيجية لاحداث تغيير شامل في سياسة الدولة.