الاجابة على هذا السؤال تكمن في ان الامر يتقرر عبر: ماذا يتم فعله من خلال الدولة ؟ وكيف يتم ذلك من خلالها ؟
عندما يجري الحديث عن طبقة ما تمسك بزمام السلطة، فإن المقصود بذلك أن ما يتم فعله من خلال الدولة، يؤثر إيجابياً على إعادة إنتاج نمط الإنتاج الذي تكون الطبقة المقصودة هي ممثلته السائدة. غير أنه ينبغي التحذير هنا من إساءة تفسير التعابير الشائعة من قبيل “أخذ” و”الإمساك” بسلطة الدولة، على أنها تعني أن سلطة الدولة هي شيء يمكن لمسه باليد. إن هذه القضية أبعد وأعقد من ذلك بكثير. فهي، بالأحرى، عبارة عن عملية تدخلات في مجتمع معين من قبل “مؤسسة منفصلة” هي الدولة، تتركز لديها الوظائف العليا في المجتمع والمتمثلة في: وضع القانون، تطبيق القانون، تعديله، فرضه والدفاع عنه “عند الضرورة”. ولهذا فإن “أخذ” سلطة الدولة و”الإمساك” بها يعني بدء نمط معين من التدخل من قبل “هيئة خاصة” مخولة للقيام بتلك الوظائف (يوران ثربورن، سلطة الدولة. حول ديالكتيك الحكم الطبقي، ترجمة عبد الله خالد، بيروت، 1985، ص 40).
غير أن الملاحظات السابقة، على أهميتها، لا تكفي بل يتعين الإشارة الى ثلاث قضايا أخرى هامة وهي :
الأولى: إن الدولة، في بنيتها، ليست واقعاً جامداً، بل يحتمل شكل الدولة تغيرات متنوعة، هي نتاج ورهان الصراع السياسي. وقد تكون تلك التغيرات في بعض الأحيان “راديكالية”. ولا تستخدم الطبقة المسيطرة الدولة كما لو أنها علاقة تصرف حر إرادي تجاهها بل أن هذه الطبقة تتشكل ويعاد إنتاجها بفضل التغيرات الحاصلة في الدولة كآلة. وإذا لم يكن مفهوم “آلة الدولة” قد أُعلن رسمياً، فهو حاضر عملياً على الدوام.
الثانية: تتضمن السلطة السياسية لطبقة ما والتي هي نتاج وشرط لسيادتها الاقتصادية، سلطة فعلية لممثلي هذه الطبقة على جهاز الدولة. ولأن هؤلاء الممثلين هم أنفسهم دوماً أعضاء في “شريحة” محددة من الطبقة المسيطرة فإنه يمكن للسلطة السياسية أن تكون رهاناً للصراع فيما بين هذه “الشرائح”. ومنعاً لأي التباس منهجي يجب عدم خلط السلطة الفعلية الخاصة بالماسكين بآلة الدولة مع سلطة الدولة المنظمة قانونياً على المجتمع، ذلك لأن هذه الأخيرة هي التي تؤول الى تحقيق السلطة الفعلية.
ومع أن الدور الذي تحتله التناقضات الداخلية بين “الشرائح” المختلفة للطبقة المسيطرة وصراعاتها الداخلية لاحتلال مراكز القوة هو دور ثانوي بالنسبة للتناقض الرئيسي إلا أنه ما يزال هاماً. إن التجليات المختلفة التي تتخذها الدولة وأشكالها ترتبط بتبديل مراكز القوة بين “شرائح” الطبقة المسيطرة. غير أنه يتعين التأكيد على أن السيطرة الاقتصادية والهيمنة السياسية لا تكونان متماثلين بشكل ميكانيكي. إذ يمكن لإحدى “شرائح” الطبقة المسيطرة أن تلعب الدور المسيطر في الاقتصاد ولكن من دون أن تحظى بالهيمنة السياسية، والتاريخ شاهد على أمثلة كثيرة.
الثالثة: تحقق الدولة، كآلة، علاقة طبقية تنعقد في مكان آخر، في الميدان الاقتصادي. غير أن الميكانيزم الذي يحقق هذه العلاقة إنما يحققها وهو يعمل على إخفائها ! إن عمل الدولة الأخير الذي يتكون بفعل وجودها وتحولها الخاصين بها، هو تكوين المجتمع والدولة نفسها في مواجهة أحدهما للآخر. يكمن عملها في تحقيق هذه المعارضة التي هي، في الوقت نفسه، تبعية وتوحيد، وهي تجعل سيطرة المصالح المهيمنة ممكنة بفضل تحقيقها من خلال تغليف المجتمع المدني الذي تحققه بمثابة دولة. هكذا يسمح اشتغالها، إذن، بممارسة السلطة من قبل الممثلين “الشرعيين” الذين جرى تكوينهم لإنجاز هذه المهمة ولاحتلال موقع “ممثلي” المجتمع، الموقع الذي أكتسب شرعيته أولاً وتم إخفائها (أندريه توزيل، سيزار لوبوريني، آيتين باليبار، ماركس ونقده للسياسة، ص 23-25).
لا تعني الملاحظات السابقة أن الدولة طاقم مفكك الأقسام والمستويات كتفسير لتقاسم السلطة السياسية بين طبقات وشرائح متعددة، بل أن الأمر هو غير ذلك تماماً. إذ فوق التناقضات ضمن أجهزة الدولة المختلفة وخلفها، تحمل الدولة دائماً وحدة داخلية متميزة، هي وحدة سلطة الطبقة المسيطرة أو الفئة المهيمنة، غير أن هذا يحدث بشكل معقد وليس بصيغة مباشرة، بل عبر توسطات.
إن إعادة إنتاج مجتمع محدد تبين أن إعادة إنتاج نمط أداء وظيفة كعملية اجتماعية مستمرة، لا تتوقف، يتم من خلالها إنتاج السلع وتوزيعها ولاستهلاكها، وكذلك إعلان الأوامر و تطبيقها، علاوة على استعراض العنف أو ممارسته “عند الضرورة”، وكذلك معايشة الأفكار ووضعها موضع التطبيق الفعلي. ونظراً لأن أي نشاط إنساني لابد أن يكون له هدف محدد فإن لإعادة الإنتاج هدفين هما: المواقع في بنية اجتماعية معينة، وكذلك الأشخاص اللازمين لتشغيلها.
ونستطيع، إذن، أن نقول بأن إعادة الإنتاج الموسع للطبقات الاجتماعية (و للعلاقات الاجتماعية) تستلزم عمليتين لا يمكن تواجد أحداهما بمعزل عن الأخرى بل هما في وحدة جدلية:
أولاً: إعادة إنتاج موسعة للمراكز التي يحتلها الوسطاء، وتجلو هذه المراكز التحديد البنيوي للطبقات، أي الطريقة التي من خلالها يعمل التجديد المذكور على ضوء البنية (علاقات الإنتاج، علاقات السيطرة/الخضوع السياسية والإيديولوجية) في الممارسة الطبقية.
ثانياً: إعادة إنتاج للوسطاء أنفسهم وتوزيعهم على هذه المراكز. إن الوسطاء سيعاد إنتاجهم “تدريبهم على الإذعان” لكي يحتلوا مراكز معينة، ولهذا فإن توزيعهم لا يعتمد على اختياراتهم أو طموحاتهم، كما تبدو ظاهريا، بل على مجرد إعادة إنتاج هذه الوظائف التي تسمح بإعادة إنتاج السيطرة دون “عوائق” تذكر. ونظراً لأن التوزيع الرئيسي يندرج تحت إعادة الإنتاج الرئيسية للمراكز التي تحتلها الطبقات الاجتماعية خلال مختلف مراحل تطور التشكيل الاجتماعي المحدد، فإن التوزيع الرئيسي هذا يعني لجهاز ما أو سلسلة أجهزة، الدور الخاص المنوط بها والذي ينبغي أن تلعبه في توزيع الوسطاء ضمانا للهيمنة.
تتحكم مشكلات التمثيل والتوسط فيما يسمى بـ “الاستقلال النسبي” للدولة. إن معنى هذه العبارة (الاستقلال النسبي للدولة) هو أن سياستها تمثل محصلة الممارسة السياسية العملية، والتي يتعين عليها وباستمرار أن توفق بين مصالح مجموعات مختلفة ومتصارعة، والتي تكون شديدة التأثر بتاريخ طويل لمثل هذه التسويات والآيديولوجيات التي تقف ورائها، ولذلك فإن سياسة الدولة ليست بالضرورة عقلانية بأي معنى من المعاني البسيطة. غير أن أهمية الاستقلال النسبي للدولة يتجلى بوضوح شديد في حقبات تاريخية تصبح فيها التناقضات بين الطبقات الاجتماعية شديدة الى حد كبير ولا يسمح ميزان القوى القائم في اللحظة التاريخية الملموسة لأي من الطبقات أن تفرض سلطتها بصورة مستديمة، مما يستدعي مجيء “بيروقراطية الدولة” وارتقاءها فوق الطبقات، ناصبة نفسها “قوة مستقلة” وتقيم سلطتها الخاصة غير الخاضعة للرقابة في مثل هذه الظروف. ويعبر “النموذج البونابرتي” عن هذه الأطروحة بأعمق الوضوح. ولعل العمل لأكثر أهمية، من الناحية المنهجية، الذي عالج الظاهرة البونابرتية هو عمل ك.ماركس: الثامن عشر من برومير.
إن الاستقلال النسبي لنموذج الدولة البونابرتية حيال الطبقات أو الفئات المسيطرة يتمتع بأهمية خاصة ومتميزة لكونه حصيلة الأزمة السياسية وتوازن القوى، الذي ينتمي هذا الاستقلال اليهما معاً. وهو على أية حال استقلال نسبي “ضروري” لهذه الدولة من أجل إعادة تنظيم توازنات الكتل الموجودة في السلطة، ومن أجل إعادة تنظيم الهيمنة، وذلك ضمن إطار إدارة الأزمة السياسية، التي غالباً ما تبرز فيها “الفئات الوسطى” كقوى اجتماعية تتميز بثقل سياسي مؤثر وفعال.