لا حاجة للتعمق في علم الرأي العام كي يكتشف راصد للمزاج الشعبي، ان الأوضاع المحيطة بالمواطن العراقي لا تشجعه على المشاركة في الانتخابات، انما العزوف عنها هو المزاج الطاغي. وحيث ان العزوف موقف سلبي ازاء مشاركة المواطن السياسية بشكلها العام، فان على عاتق قوى التغيير مهمة تشجيع المواطن واشراكه كصاحب مصلحة حقيقية في الصراع من اجل التغيير المنشود، وهنا مكمن امتحان قدرات القوى المدنية وامكانياتها في التأثير وتحويل الموقف السلبي الى موقف سياسي هادف، وفعل كفاحي يسهم في اخراج العراق من ازماته التي شملت كل مناحي الحياة.
عند هذه النقطة الفارقة، نقطة تشجيع المواطن على ممارسة الفعل السياسي، تتصارع القوى المدنية حول توجهين، أحدهما اتخذ من المشاركة في الانتخابات المفترض اجراؤها في ١٠ تشرين الاول 2021، طريقا للخلاص من نفوذ القوى الماسكة بالسلطة، استنادا على دراسة خلاصتها ان الأجواء مهيئة لاحراز نصر انتخابي، يؤمّن للقوى المدنية تمثيلا مناسبا يمكنها من تغيير موازين القوى وإزاحة طغمة الفساد، ويفتح آفاق حل الازمة المستفحلة. وهذا يفترض تمكن القوى المذكورة ونجاحها في تحشيد أوسع مشاركة شعبية في الانتخابات.
فيما يرى الاتجاه الثاني عدم جدوى انتخابات هُيئت اجواؤها لصالح طغمة الحكم، تضفي نتائجها نوعا من الشرعية الزائفة على المتنفذين. لذا فهو يتبنى مقاطعة هذه الانتخابات، التي يندرج ضمن اهم شروط نجاحها اكتسابها بعدا جماهيريا فعالا، عبر انخراط قطاعات شعبية واسعة في أنشطتها. وعندها يتحول العزوف الى فعل سياسي شعبي معارض ومنظم.
يبدو ان فرصة نجاح المقاطعة لا المشاركة في انتخابات لا تختلف عن سابقاتها بشي من حيث الجوهر، على عكس ما هدفت اليه الانتفاضة بتبنيها مطلب الانتخابات المبكرة بشروطها واشتراطاتها، باعتبارها رافعة للتغيير تحد من نفوذ طغمة الفساد، التي نشهد تمسكها بالحكم وتمترسها في مفاصل السلطة بشكل اعمق. حيث تؤكد الوقائع ان حيتانها لا توفر فرصة إلا واستغلتها للتغوّل والاستئثار ومواصلةً تعظيم ثرائها الباذخ، في وقت كان يتوجب فيه محاكمتها على ما اقترفت اياديها من جرائم نهب للمال العام، الى جانب جرائم القتل والخطف والتغييب، ومسؤوليتها عن السياسات والإجراءات الفاشلة، التي ليس آخرها السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية التي تعكسها( الورقة البيضاء)، وما سببت من تصاعد لحدة الازمة المعيشية جراء ارتفاع أسعار المواد الأساسية، ومن حصر لشرائح اجتماعية واسعة تحت مستوى الفقر، ووضعها امام مستقبل كارثي. الامر الذي صعّد مديات السخط ووسّع الغضب ورفع مناسيب اليأس عند طيف واسع من الشباب، الذين خسروا حاضرهم ولم يبصروا بصيص امل في مستقبلهم. وهذا ما برهن على عجز المنظومة الحاكمة عن حفظ كرامة المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية.
نستنتج مما تقدم ضعف امكانية تحويل العزوف عن الانتخابات الى مشاركة فعالة فيها، وان عوامل الرفض الشعبي لسياسات المتنفذين تفوق بما لا يقاس عوامل التعامل معها. وهذا ما يوفر امكانية تحويل العزوف الى مقاطعة شعبية واسعة، تبرهن بوعيها على ان لا أمل في الخروج من الازمة عبر طرائق تنظمها طغمة الحكم، التي لا تبصر سوى مصالحها الضيقة.
لا يبدو في الأفق حل يأتي عبر الانتخابات المرتقبة، بقدر ما يلوح احتمال ممكن ومتوقع باندلاع انتفاضة اخرى.. انتفاضة جديدة ممكنة جدا ومتوقعة، بل انها مسألة وقت.