كنت قد تطرقت إلى هذا الموضوع في مقال سابق قبل سنين تعقيباً على دعوات بهذه الفحوى تتكرر اليوم مع اقتراب انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي العراقي.
أهم ما يتحجج أصحاب هذه الدعوة به هو أفول نجم الشيوعية إثر انفراط عقد دول أوروبا الاشتراكية السابقة, بعد فشل التجربة السوفيتية, أو ضرورة مراعاة طبيعة مجتمعنا المتدين و ( المزاج العام ) لما تشكل مفردة " الشيوعية " من حساسية لديها, في ظل تصاعد المد الإسلامي الذي يعتبرها كفراً… او أن عصر الأيديولوجيا قد انتهى, والليبرالية هي المنتهى.
أعتقد بأن هذه الأسباب كلها لا تعطي مسوغاً معقولا لتغيير اسم الحزب !
فكل تلك الأسباب والمبررات التي ساقها أصحابها لا يمكن أن تنطبق على الحزب الشيوعي العراقي.. فليس بأسمه خلال تاريخه الطويل ما يشينه, فلم يكن حزبا حاكماً ارتكب ما يستوجب إدانته, ولم تكن له ممارسات تستدعي الخجل منها وادانتها والتبرؤ منها بتغيير اسمه, كما فعلت أحزاب المنظومة الأشتراكية وقطع صلته بذلك التاريخ وتلك الممارسات, بل كان تاريخه حافل بالإيثار الوطني والدليل كم الشهداء الأبرار الذين قدمهم من اجل حرية الوطن وسعادة شعبه, وكل ما يجري انتقاده عليها من انخراط في جبهات او اتخاذ مواقف وتقديرات موضع جدل حولها, تدخل ضمن عملية الصراع السياسي وتحولاتها وتعقيداتها, التي لا يمكن الحدس بها بالتمام, وكانت كلها متجردة من المنفعة الحزبية الضيقة بل كانت اجتهاداً لخدمة الشعب والوطن.
بالتالي لا يمكن معاملته كما الأحزاب الشيوعية التي حكمت في أوروبا, وليس من المنصف تحميله ممارساتها.
أنقل هنا وقائع تجربة عاصرتها. فقد خدمتني الظروف خلال فترة دراستي في بولونيا لأكون شاهداً على مراحل تغيير النظام في " جمهورية بولونيا الشعبية ", وعملية تحول نظامها الأشتراكي إلى النظام الرأسمالي, بتسليم " حزب العمال البولوني الموحد - الحزب الشيوعي " السلطة ل " منظمة التضامن العمالية - سوليدارنوشج وقائدها ليخ فاونسا " بشكل سلمي تدريجي بعد انتخابات عامة جرى الاتفاق عليها بينهما.
قام " حزب العمال البولوني الموحد ", حينها, في مؤتمر حزبي عام له, بمراجعة لمجمل سياساته منذ استلامه للسلطة عام 1944 بعد تحرير الجيش الأحمر السوفيتي لبولونيا من الاحتلال النازي, وانتقد ممارسات وجرائم الحقبة الستالينية لحزبهم وأدان مرتكبيها وكذلك لفترة البيروقراطية الحزبية التي تلتها, وقمع الإضرابات, واعتذر عنها للشعب البولوني, وقرر التحول إلى حزب اشتراكي ديمقراطي.
طبعاً لم تشفع لأعضاء وقيادات هذا الحزب لدى قوى اليمين وسلطات الكنيسة البولونية حتى يومنا هذا, كل ما قاموا به لإثبات قطيعتهم مع سياسات الحقبة السابقة وتبنيهم لمنهج آخر, مثل تسليم الشيوعيون السلطة لهم سلميا وتخلي الحزب عن ايديولوجيته الشيوعية والتحول إلى حزب اشتراكي ديمقراطي وانتمائه إلى الأممية الاشتراكية الديمقراطية, ثم بعد رجوعه إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية إثر فشل سياسات وإجراءات الحكومات اليمينية المنبثقة عن منظمة التضامن في تحقيق وعودها وعهودها للشعب البولوني, قام بادخال " الجمهورية البولونية " ( بعد حذف صفة الشعبية منها ) في حلف الناتو ووثق علاقات بولونيا بالولايات المتحدة الأمريكية وشاركها حروبها في أفغانستان والعراق ثم أدخل بولونيا إلى الاتحاد الأوروبي, كما جرى في عهدهم استرجاع الكنيسة لبعض أملاكها واقطاعياتها التي أممتها الحكومات الأشتراكية السابقة والتي هدمت الحرب أغلبها واستعادتها مبنية, لا بل حتى استرجعت الكنيسة أراضيها التي صادرها ملوك بولونيا في أوقات أسبق… كل ذلك لم يشفع للاشتراكيين الديمقراطيين البولونيين عن عدم نعتهم بالشيوعيين والمطالبة باقصائهم كلياً من الحياة السياسية.
حاولت هنا أن أثبت بأن تغيير الاسم سوف لن يغير شيئا لا بل حتى اعتناق أيديولوجية اخرى تقترب من أيديولوجية اليمين, لا يمكن أن تقنع هذه القوى بأي حال من الأحوال والأمر يسري على إسلاميينا الذين لن يتخلوا عن استقدام ذريعة الانتماء الشيوعي والتكفير في صراعهم السياسي وإشهار سلاح العداء للشيوعية.
كما أن التوسل بتغيير الأسم, لإرضاء قوى او جمهور ذات مواقف مسبقة, شيء من المحال, بل هو وهم ما بعده وهم !
انما الطريق الوحيد لكسب ود الجماهير هو العمل معها وبين صفوفها وتقديم برامج عملية لحل مشكلاتها وتأمين مطامحها.
وفي الحقيقة لا ارى وجود أزمة تحسس جمعي من تسمية " الشيوعي ", وإنما هناك مشاعر تقدير واحترام شعبي لتاريخ الحزب ومواقفه السياسية المنحازة للكادحين, وخصوصاً بعد تأييد الحزب لانتفاضة تشرين وانخراطه في صفوفها, وإشادة بنزاهة الشيوعيين ووطنيتهم الحقيقية وأمانتهم, وبعد تهافت ادعاءات الاسلام السياسي و أعداء الشيوعية ضده, وفشلهم في تقديم صورة تضاهي صورة الشيوعي المتمسك بوطنيته والمنحاز لشعبه.
لقد قطع الحزب الشيوعي العراقي شوطاً كبيراً في تطوير رؤاه الفكرية وأصوله التنظيمية بما يعزز الديمقراطية الحزبية الداخلية والمشاركة الجماعية الواسعة لأعضائه في رسم سياساته,
فقد كانت له الريادة في إدخال مباديء ديمقراطية جريئة في مجال العمل الحزبي العراقي, تفتقر لها الأحزاب والتجمعات السياسية الأخرى, مثل طرح برامجه السياسية والتنظيمية للمناقشة الشعبية العامة ومن خلال صحافته, وإشراك رفاقه في تقرير مواقف مصيرية في حياة الحزب من خلال الاستفتاء العام...
لقد ارتبط التاريخ الشخصي للكثير من العراقيين بأسم الحزب الشيوعي والنضال في صفوفه او التنظيمات المهنية والنقابية المقربة منه وتشكيلات أنصاره المسلحة السابقة, فضلاً عن خروج كوكبة غفيرة من المثقفين والمبدعين الذين أسسوا للفكر العلماني والديمقراطي الليبرالي, من معطفه. وبإلغاء اسمه التاريخي سيفقد جميع هؤلاء جزءاً من تاريخهم الشخصي المشرف الذي سطره انتمائهم التنظيمي او الفكري او العاطفي.
ينبغي أيضاً توقع قيام طرفٍ ما باتخاذ الاسم, حال التخلي عنه, وتسجيله رسمياً باسمه, واختطاف تاريخ الحزب ونضالاته لصالحه !
تساؤل أخير لدعاة استبدال الاسم بآخر : ماذا عن توصيف شهداء الحزب ؟
شهداء الحزب ( التقدمي مثلاً, الشيوعي سابقاً ) !!