الديمقراطية والرأسمالية
بين الفينة والأخرى، تتعالى أصوات المدافعين عن الرأسمالية، العارفين منهم وغير العارفين، في مسعى خائب لتوأمة الرأسمالية مع الحرية. ولعل أفضل ما يمكن لهؤلاء عمله لإكتشاف زيف ما يقولون، مراجعة عاجلة للتاريخ، الذي عرف، وفي أغلب حقبه، عداءً شديداً، بين تطور الديمقراطية السياسية وبين عتاة المحافظين والليبراليين، سواءً في منح الحقوق المدنية للمالكين فقط وحجبها عن ملايين الناس وفي الصميم منهم النساء، أو في تزوير نتائج الإنتخابات وإستخدام كل أشكال العنف لإرهاب المعارضين أو في إقامة أنظمة توليتارية أو ثيوقراطية أو فاشية (أيطاليا، المانيا، إسبانيا، البرتغال، اليونان، أمريكا اللاتينية وغيرها).
لقد أستخدمت البرجوازية الحريات، في صراعها مع الإقطاع، لكنها عمدت الى قوننة هذه الحريات لصالح المالكين وتركت الأغلبية غير المالكة تحت كبت سياسي وإقتصادي مريع. ولم يكن التطور الديمقراطي في البلدان الرأسمالية هبة البرجوازية للناس، بل نتاج تراجعات، أُجبرت عليها في مواجهة النضالات الباسلة للبروليتاريا وحلفائها الطبقيين. غير إن تلك التراجعات كانت دوماً مدروسة، بحيث تُبقي على الإستبداد البرجوازي، عبر وضع جملة من العوائق اللوجستية والقانونية والإقتصادية والإجتماعية القادرة على تحجيم أي مسعى للضغط على السلطة البرجوازية أو إستبدالها، الأمر الذي طالما أثار شكوك الناس بقدرتهم على التأثير عبر الأليات الديمقراطية وخلق لديهم أوهاماً ويأساً قاتلاً، لاسيما بين الشباب والفئات الهامشية.
وفي عصر العولمة، تحولت الشركات العملاقة العابرة للحدود، الى سلطة أعلى من القوانين الناظمة للدولة، حيث تعجز أية حكومة على التدخل في مجالس إدارة هذه الشركات أو في عملها الإنتاجي أو في تفككها وإندماجها، مهما تركت هذه الفعاليات من أثار كارثية على إقتصاد البلاد والمستوى المعاشي لملايين من سكانها. وكما صارت هذه المجتمعات “الحرّة” مجالاً خصباً لولادة الأفكار العنصرية والقومية المنافية للحرية، تطورت أساليب التعامل مع المكتسبات والحقوق التي نالتها الطبقات الوسطى والعاملة، بما يضمن تقليص جوهرها مع المحافظة على شكلها، من خلال تشديد البيروقراطية وتبرير إستخدام العنف (بذريعة صيانة الأمن ومحاربة الإرهاب) والتأثير على القضاء وإحتواء الحركات الإجتماعية وشيطنة النقابات والمؤسسات المدافعة عن حقوق الناس.
وعموماً، فإذا كانت الديمقراطية السياسية تعني حكم الشعب، فهي ليست ملازمة للرأسمالية، لإن الرأسمالية تعني حكم البرجوازية، وهي ليست الشعب، بل أقلية صغيرة منه. إن حكم الشعب يجب أن ينبع من داخله ولا يفرض من خارجه. إنه يتعارض بالتأكيد مع حكم أقلية، سواءً كانت أصحاب رأس المال أو أصحاب ياقات بيضاء أو عمائم أو قمصان خاكية.
وإذا كان الشرط الجوهري للديمقراطية، يكمن في التداول السلمي للسلطة، فإن هذا لا يعطي الأغلبية حق الإستئثار بكل شيء، لأن ذلك يعني بالضرورة غياب حكم الشعب وتحوله الى دكتاتورية الأغلبية، الأمر الذي لابد من تصحيحه عبر الإلتزام بإحترام الأقلية والتشاور معها والتفاعل مع إرائها، وهو ما تفتقد الى جوهره، العديد من الأنظمة الرأسمالية ، حتى وإن توفرت فيها بعض أشكاله.
إن ما تعيشه الدول الرأسمالية، من إستقطاب شديد في توزيع الدخل القومي، وما تعانيه الدول التابعة من فقر وتخلف، ومن الإضطهاد المزدوج للنساء والأقليات والمهاجرين، ليس سوى بعض من الأدلة الدامغة على التناقض التناحري بين الرأسمالية والعدالة الإجتماعية، مما يكشف عجز هذا النظام عن تحقيق الحريات لبني البشر.
الديمقراطية و «الإشتراكية» الفعلية
لقد وفّر زلزال إنهيار الإتحاد السوفيتي، بعض المبررات ليعلو الزعيق عن وجود تعارض بين الإشتراكية والديمقراطية، وبين الحرية و دكتاتورية البروليتاريا. غير أن هذه المبررات تبقى وهمية، لأن دكتاتورية البروليتاريا لم تكن يوماً إستبدال سلطة البرجوازية بسلطة طبقة أخرى، كما يحاول للبعض تبسيط الأمر، بل إنها عملية ثورية، تتحرر فيها البروليتاريا من أغلالها فتخلق جملة الظروف الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، الكفيلة بتخليص البشرية كلها (هل هناك أغلبية أكبر من هذه؟) من الإستغلال ودمار الحروب.
وتشمل هذه العملية أيضاً تقويض البنى الإجتماعية والإقتصادية للرأسمالية، وإلغاء السيطرة السياسية وتوفير الحريات الشاملة وبناء مجتمع مبدع مادياً وثقافياً، مجتمع المنتجين الأحرار، الذي تكون حرية الفرد فيه شرطاً لحرية الجميع. ومن هنا لا يوجد تعارض بين دكتاتورية البروليتاريا وبين حكم الشعب. كما إن التخلي عنها لم يكن بسبب تعارضها مع الحرية، بل لأسباب تتعلق بالتطور التاريخي للمجتمعات الصناعية وبالتقدم التقني والاجتماعي والتغييرات الجوهرية في الطبيعة الطبقية للبروليتاريا وحلفائها في عصر الثورة المعلوماتية.
لكن، ومن الحق القول، بأن هناك في تجربة التطبيق العملي، طيلة عقود سبعة من القرن العشرين، ما ساهم فعلاً في تشويه دكتاتورية البروليتاريا كشكل متطور للديمقراطية، كما كتب عنه ماركس وأنجلس، حيث غيُّبت الأقلية، رأياً ودوراً وتواجداً، وإنتهك القانون والنظام بذريعة إمتلاك الحاكمين للشرعية الثورية! وبدلاً من بناء هياكل اقتصادية حديثة وهياكل ديمقراطية شاملة، تحقق إزدهاراً وإنتاجاً كبيرين في ظل الملكية الجماعية، وتمكّن الطبقة العاملة من الهيمنة على الحياة السياسية والثقافية بحيث تصبح مصدر جذب لغالبية الشعب، سادت البيروقراطية وغاب أو حجّم الدور القيادي الحقيقي للحزب وحظيت المركزية، المنتزعة عنها ديمقراطيتها، بتبجيل قادة الكرملين! وهكذا، وكما غابت عن الدول الرأسمالية الحرية الحقيقية بسبب غياب العدالة الإجتماعية، حُجّمت الحرية في المجتمعات “الإشتراكية” بسبب غياب الديمقراطية السياسية، فطائر الحرية عاجز عن التحليق بدون جناحيه، الديمقراطية السياسية والديمقراطية الإجتماعية.
الديمقراطية في البلدان النامية
يسعى أكثر المتضررين من قيام دولة مدنية ديمقراطية في البلدان النامية الى نشر وهّم خطير، يدّعي بأن الديمقراطية تعني وجود حياة حزبية وإعلام حرّ وقيام إنتخابات تحدد الحاكمين والمشرعين، وبالتالي يمكن أن تصبح بلداننا ديمقراطية، إذا ما حقننا هذه الخطوات العاجلة الثلاث!
وتتجلى خطورة هذا الوهم في حجب معنى الديمقراطية بإعتبارها عملية تاريخية متواصلة ومتدرجة لتنظيم سلمي للصراع داخل المجتمع، أي لإدارة كل العلاقات والمصالح والأفكار التي تتبناها الطبقات الإجتماعية المختلفة وتدافع عنها، وتنظيمها في ما بين الناس أو بين الدولة والمجتمع أو بين مؤسسات الدولة ذاتها.
وعليه، فإن إقتصار التحول على حرية الأحزاب والإعلام وإجراء الإنتخابات، لا يفضي الى قيام الدولة المدنية الديمقراطية الا إذا إقترن ذلك بتحقيق عدالة اجتماعية تضمن حقوقاً إقتصادية متكافئة للناس، بإعتبارها أساس قيام حقوق سياسية متكافئة. كما لا بد من تطوير الحياة الثقافية للجماهير ونشر قيم الحرية والتعاون والتسامح والتنافس السلمي ومكافحة الأمية والتمييز ضد النساء وضد المختلفين فكرياً أو دينياً أو قومياً.
وأخيراً، لن تكون المؤسسات التمثيلية، حتى تلك المنتخبة بطريقة نزيهة، مجالاً وحيداً للتأثير على السلطات والمشاركة في إدارة البلاد، بل لا بد من إعتماد وسائل أخرى كالحركات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني والتظاهرات والإحتجاجات والإستفتاءات وغيرها، مما يتيح المجال للأغلبية في التعبير عن أرائها والمشاركة في رسم مستقبلها ومستقبل البلاد.