يبدو ان هناك التباسا في شأن مقاطعة الانتخابات وحق اللجوء اليها كخيار لمعارضة واقع سياسي معين، خيار سبق وتبنته أحزاب في دول أخرى، مع ان كل حالة من حالات المقاطعة لها ظروفها الخاصة، وقد نجح بعضها في تحقيق هدفه، فيما لم يكتب للبعض الآخر النجاح.
فمقاطعة الانتخابات المزمع اجراؤها في 10 تشرين الأول ليست الأولى في التاريخ السياسي ولن تكون الأخيرة، وقد شهدت العملية السياسية في العراق تجربتي مقاطعة تحضران في الذاكرة: الأولى التي استهدفت اول انتخابات برلمانية بعد انهيار النظام الدكتاتوري الاستبدادي، وكان من اهم اهدافها الشروع ببناء سلطات جديدة لنظام سياسي قيد التشكيل يتجه نحو التحول الديمقراطي، انتهت بالاخفاق. اما الأخرى فهي مقاطعة انتخابات عام ٢٠١٨، التي أطلقتها ونظمتها مجموعة من الشخصيات المدنية مستثمرة تذمر وسخط الرأي عام على تعمق المحاصصة واتساع ظاهرة الفساد وتردي الخدمات. وقد اصبحت آنذاك أحد العوامل التي فجرت انتفاضة تشرين.
اما المقاطعة الحالية فالجديد فيها هو شمولها، بجانب الطيف الواسع من الشخصيات السياسية المستقلة والكفاءات الفكرية والثقافية، أحزابا وقوى سياسية مدنية اسهمت في جميع الانتخابات السابقة، كذلك أحزابا واطرا تنظيمية شبابية تشرينية، هي القوى ذاتها التي طالبت بالانتخابات المبكرة غداة انتفاضة تشرين.
وهذا ما شكل المفارقة. فكيف لأحزاب ديمقراطية ترفع لواء التغيير، وقد طالبت بالانتخابات المبكرة التي هي صاحبة المصلحة في اجرائها، ان تقاطعها حين يستجاب لها؟ وبدا للبعض كأن هذه المقاطعة تشكل موقفا سلبيا من الديمقراطية، او رفضا للانتخابات بصورة عامة، فنشأ نوع من الالتباس لدى طيف من أبناء المجتمع وحتى نخب سياسية وثقافية.
ولفك هذا الالتباس ينبغي القول ان مما يجانب علم السياسة ان يُعتقد ان المقاطعة تشكل رفضا للديمقراطية وموقفا ضد النظام الديمقراطي في العراق. فالمقاطعة هي اجتهاد سياسي، والديمقراطية لم تمنع يوما الاجتهاد الفكري والسياسي، وليس في قاموسها ما يكفره. ومن جهة أخرى يغالط علم السياسة من يعتقد ان النظام السياسي في العراق هو نظام ديمقراطي! فمرحلة التحول الديمقراطي التي نمر بها لا تعني ان النظام اصبح تلقائيا نظاما ديمقراطيا، فهو واقعا نظام قيد التحول، وفي ظله يخاض صراع حول شكل ومحتوى الدولة، بين من يواصل ترسيخ المحاصصة الطائفية ومن يسعى لبناء دولة المواطنة.
هناك تجارب وامثلة تاريخية غير قليلة لبلدان وضعت اقدامها على اعتاب البناء الديمقراطي، لكن تجربتها وئدت في انقلابات وانتكاسات رافقتها حمامات دم. ونحن نسعى الى بناء نظام ديمقراطي رصين، عبر آليات بينها الآلية الانتخابية التي توفر جوا آمنا مناسبا لتكافؤ الفرص والمنافسة الشريفة، على اساس برامج واضحة تحقق انتخابات حرة ونزيهة. وبدون ذلك يبقى البلد يصارع في لجة ازمات لا تنتهي.
ويجدر هنا التذكير بالهدف من الانتخابات المبكرة، التي كان مفترضا اجراؤها في نيسان ٢٠٢٠ لولا مماطلة طغمة الحكم التي ادت الى تأجيلها حتى ١٠/١٠/٢٠٢١، وبالتالي افرغت التبكير من محتواه! حيث ادركت تصاعد الوضع الثوري يومذاك ومعه الأنشطة الرافضة لسياسات المتنفذين، فيما هي في اضعف حالتها، فلو أجريت الانتخابات يومها لهُزمت شرّ هزيمة.
ثم ان القوى المتنفذة إدارت ظهرها لشروط الانتخابات المبكرة واشتراطها، خاصة ما يتعلق بحصر السلاح بيد الدولة ومحاكمة قتلة المتظاهرين ومحاكمة حيتان الفساد، وان تكون السجون المكان الطبيعي للمجرمين وليس مقاعد السلطة التي يرفضون مغادرتها، مستغلين المناصب والمليشيات والمال السياسي الذي يمكّنهم من التلاعب بالانتخابات ونتائجها.
هكذا تجاهلت الطغمة الشروط والمعايير التي تضمن حرية الانتخابات ونزاهتها، فتوفر الفرص المتكافئة للجميع، وتحقق الهدف المنشود بجعل الانتخابات رافعة للتغيير.