لا تحتاج الانتفاضة منا، في ذكراها الثانية، الى التجبيل. فهي مبجلة بالوعي المتقدم الذي انتجته، والأهداف الوطنية الكبرى التي رفعتها، والمطالب المشروعة التي نادت بها، وبشهدائها والتضحيات الجسام التي قدمتها، وبالاقدام والبسالة النادرة ونكران الذات لابطالها وجماهيرها.
ولا تحتاج الانتفاضة الى التذكير بهدفها الأساسي: “نريد وطن”. فهو راسخ في الوجدان، وسيبقى مرفوعا طالما بقيت ازمة النظام السياسي القائم تنتج الازمات، بعد ان أشاع المتنفذون الفساد ونهبوا الأموال العامة وبددوا الثروات، وجعلوا من العراق ساحة لصراع المصالح الأجنبية، مفرطين بمصالح الشعب وحقه في العيش الكريم.
لا تحتاج الانتفاضة في ذكراها الثانية، استعراضا لوسائل القمع التي استخدمت ضدها، فقائمة الشهداء والجرحى ومن طالهم الاعتقال والتعذيب الطويلة، تشهد وتدين الانتهاكات التي تخزي مرتكبيها وتظهر استهتارهم بحقوق المواطن وحرياته.
ولا تحتاج مواقف القوى المتنفذة واساليبها الخبيثة في تفكيك الانتفاضة، الى المزيد من الكشف والتعرية، كذلك محاولاتهم اختراق واحتواء الانتفاضة، وبضمنها سرقة اسم الانتفاضة وتشكيل تنظيمات سياسية بأسمها.
ولا تحتاج الانتفاضة منا التطرق الى الوعي المتقدم الذي رافق أنشطتها، الوعي الوطني الذي جسده الرفض القاطع للطائفية السياسية، والتشديد على المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
لا تحتاج الانتفاضة كل ذلك، بقدر حاجتها الى النقد الموضوعي واستلهام دروسها، ومعالجة الثغرات التي رافقتها، والنواقص التي لو كان تم تجاوزها لتحقق الكثير من مطالبها.
في الذكرى الثانية للانتفاضة نشدد على التالي:
أولا: تعريض الانتفاضة بكل جدية الى النقد، ليقول كلمته في مساراتها وما رافق أنشطتها، ويشارك في التهيئة للفعل الاجتماعي المتوقع بانطلاق احتجاجات جديدة، حيث ان العوامل التي أدت الى اندلاع الانتفاضة قبل سنتين ما زالت قائمة بل وأضيفت اليها عوامل أخرى، مثل تصاعد مؤشرات الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وتفاقم الأوضاع المعيشية الذي اشتد بعد رفع سعر صرف الدولار على حساب الدينار.
ثانيا: إشكالية عدم تبلور قيادة سياسية للانتفاضة، وعدم وجود لجنة تنسيق ميدانية عليا. وإذا كانت العفوية التي رافقت انطلاقها مفهومة، فان تواصل أنشطتها في ساحات الاحتجاج أكثر من سنة من دون ان تفرز قيادة تتحمل مسؤولية تنظيمها، أمر مثير للقلق. اما رفع شعار (الوعي قائد) مجردا، فتأثيره عكسي، لان وعي وادراك الهدف الصحيح يقود الى اختيار الطريق الصحيح، ووعي ضرورة التنظيم وتكوين قيادة سياسية هو أحد مستلزمات النصر.
ثالثا: الوقوع في وهم القوة، والاستهانة بطغمة الحكم ونفوذها وامتدادها داخل السلطات، وامتلاكها للمليشيات المسلحة التي اوغلت في القتل، وقدرتها على التملص وعدم ترك اثر يكشفها. مثال ذلك ما سمي الطرف الثالث، وعدم الحساب الصحيح لميزان القوى في تلك اللحظات، وتوهم كون الانتفاضة ثورة كاملة نضجت شروطها الذاتية والموضوعية.
رابعا: اهمال البعد الطبقي في الصراع وعدم التركيز عليه. فالفجوة الطبقية واسعة، وكان يمكن تأمين فرز اجتماعي أكثر دعما لكفة الانتفاضة، حيث ان طغمة الحكم تمثل مصالح الأقلية “الاولغارشية” فيما تمثل الانتفاضة عموم الشعب الذي سلبت حقوقه ونهبت أمواله، سيما وهي تعكس الهندسة الاجتماعية التي تتمثل فيها جميع طبقات الشعب وشرائحه الاجتماعية.
خامسا: الانتفاضة في النهاية فعل سياسي، لا بد ان يفضي الى نتائج. لكن هناك ضعفا في المبادرة السياسية، وشيوعا لذهنية تحريم التكتيك السياسي، واستعبادا لوسائل الضغط والمدافعة والتواصل مع الآخر، و(تجريم) التفاوض. وذلك ما ألغي دورها المفترض في تشكيل الحكومة المؤقتة، وترك المهمة في يد طغمة الحكم.
أخيرا لا بد من متابعة وضع المجتمع الذي طفح فيه الكيل، وغدا يعيش تململاً قد يعبر عن نفسه بأشكال احتجاجية غير مألوفة. فالظاهر ان الصراع لن تحسمه الانتخابات، بل قد تكون نتائج هذه الانتخابات دافعا إضافيا لغضب الناس من بقاء الأوضاع على حالها.
لقد رفع ملايين المواطنين مطلب التغيير، وأمهلوا .. لكنهم لن يهملوا مطلبهم!