يكاد يكون التَّكفير والتَّنوير ضدين متلازمين، قديماً وحديثاً، فما متنورٌ إلا واجهه مُكَفِرٌ، مع أنَّ صاحب الفكرة التنويرية قاده إليها عقله، وليس سيفه، كي يُكفر وبالتالي يُقتل. العقل الذي اُعتبر به الإنسان كائناً سامياً، به تحققت أرقى الاختراعات والاكتشافات. أمَّا في الدِّين فذُكر العقل في أكثر مِن ستين آية: «تعقلون» و«يعقلون» و«أولي الألباب»، أيّ «أولي العقول»(الطَّبري، جامع البيان).
فكيف يُحرم على عاقلٍ مثل معروف الرُّصافي(ت: 1945) استخدام عقله في نقد أخبارٍ وروايات، جمعها محمد بن إسحاق(ت: 151هج) بتوجيه مِن خليفة عصره، ليظل التحريض ضده، في حياته ومماته، مِن رجال دين، ومثقفين التحفوا عباءة التَّكفير. يصادف اليوم (16مارس 1945) أن شيع الرُّصافي ثلة قليلة ممَن عرفوا حقَّ عقله، بفضل الفتاوى والضجة التي حُشدت ضده، بسبب كتابه «رسائل التَّعليقات»(1944)، وقوله بفكرة «وحدة الوجود»، «لا موجود إلا الله»، مما جعل الأديب المصري أحمد حسن الزيات(ت: 1968) يهاجمه بابتذال في مجلته «الرسالة» بعد وفاته بعشرة أيام(الرسالة، العدد: 612)، وقبلها نشر للدرديني خشبة(ت: 1965) مقالات هجوميّة منها: «الرُّصافي والحَر ووحدة الوجود»(الرِّسالة: 3/6/1944).
تبنى رجال الدِّين الموقف نفسه، فأفتى الشّيخ إبراهيم الرَّاوي(ت: 1946) بتكفيره، والشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء(ت: 1954) بوجوب نفيه إلى بلاد الكفر(علي، الرُّصافي، وصيته، مؤلفاته 1948). لكنْ عندما طُلب مِن المرجع أبي الحسن الأصفهاني(ت: 1946) تكفيره، اعتذر(الخليلي، هكذا عرفتهم).
جددَ صدور «الشَّخصية المحمديَّة»(2002) التكفير ضده، فإذا كان الرصافي تبنى «وحدة الوجود» في «رسائل التَّعليقات»، ففي «الشَّخصيَّة...» عظم شخصيَّة النَّبي. صنف الكتاب (1933) بسبب ما ناله(1929) مِن تخوين وتسفيه، حين كتب: «ظهرت بجزيرة العرب أعظم شخصية عالميَّة، فلم يُقدر أتباعها قدرها»(الرُّصافي، وصيته، مؤلفاته). يقصد ما نسجه الإخباريون والقصاصون مِن أوهامٍ، فحسب الرُّصافي: «أضاع المسلمون شخصية نبيهم وجردوه مِن عظمته ومزاياه»، فالكتاب كان دفاعاً عن النَّبي الإنسان، وليس انتقاصاً منه.
لم يدرك مكفرو الرُّصافي أنَّ لعقله الحقَّ في التَّفكير، وليس لهم الحقَّ بالتَّكفير. على هذا المنوال كتب الأديب السُّعودي محمد رضا نصرالله: «الرُّصافي يعتدي على نبوة محمد»(الرِّياض: 13/8/2002)، وأردف تحت عنوان: «لماذا لم تردوا على منكر النُّبوة»(الرِّياض: 22/6/2003). يصلح ما جاء في المقالين فتوى لحرق الكتاب ونبش قبر مؤلفه، مثلما حدث قديماً عند المواجهة بين التَّنوير والتَّكفير. هكذا يرتدى المثقف جبة الكاهن دون أنْ يشعر، ليكون مِن «الموقعين عن ربِّ العالمين»، ومَن سماهم الرصافي «بوليس السَّماء»(العمري، حكايات سياسية).
بينما الرُّصافي أراد إعطاء شخصيّة النبي حقّها، محللاً الرِّوايات وناقدها، وهذا ما ابتلى به، مِن قبل، ملهمه المَعرّيّ(ت: 449هج). يقول الرُّصافي: «أنا مسلمٌ فحسب... فلا أكون تابعاً لغيري»(خواطر ونوادر). وأقول: مع كلِّ ما واجهه الرُّصافي، منذ 1929، لم يثنه عن بث التَّنوير، عبر نثره وشعره. خرج مِن الوسط الدِّينيّ، غير قاصر عن فهم الدِّين. جاء في وصيته: «خالفتُ المسلمين في ما أراهم عليه مِن أُمورٍ، يرونها مِن الدِّين، وليس هي منه إلا بمنزلة القشور مِن اللُّبابِ». فهل كان الرُّصافي في ما أوصى كاذباً، ونرى كيف خُطف الدِّين، بما تركه الأولون، وأضافه المتأخرون مِن غرائب. قبل الرُّصافي طالت تهمة الزَّندقة الكثيرين، قال أحدهم إبراهيم بن سَيابة(ت: 198): «قد كنتُ قبل اليوم أُدعى مسلماً/ واليوم صار الكُفر مِن أسمائي»(ابن المعتز، طبقات الشُّعراء)، هكذا الرُّصافي بين تنويره وتكفيره.