مات بطل غزو العِراق كولن باول(2021)، ولحقته بطلة الحصار عليه مادلين أولبرايت(2022)، الأول «جمهوري» وأول وزير خارجية أميركي مِن السُّود، والثَّانية «ديمقراطية»، وأول وزيرة خارجية أميركية مِن النِّساء، جمعهما هدم العِراق. فلا فرق بين «جمهوريّ» و«ديمقراطي»، غزاه بوش وسلمه أوباما للميليشيات الدِّينية، ولحضانة الولي الفقيه. اجتمع الاثنان، حزبا كولن ومادلين، في جعل العراقيين يتمنون حفنةً مِن «العدس»، في ظل الحصار وديمقراطيَّة الطَّوائف، وهو ما يسطره المقال.
تبدأ هذا الشَّهر مِن تاريخ العِراق العشرين سنةً، منذ سقوط «دولة البَعث»(9 أبريل2003)، وقد تكون التَّسميّة غير دقيقة، فـ«البعث» انتهى حزباً منذ تصفية كبار كوادره(1979)، ليخُتزل بالمنطقة فالعائلة(أبناء وإخوان وأصهار)، ولولا ما حصل بعد انقضاء ذلك النِّظام، مِنْ الفشل الذّريع والاستهتار بالدِّماء والثَّروات، ما ذكره أحدٌ بإطراء، إلا مَن خسر مصالحه، وإلا فالمثالب لا تُحصى.
لكنَّ البُدلاءً طبقوا نظام الأبناء والأصهار نفسه، مغطى بنفاق ديني، والجرأة على ما لم يُجرئ عليه ذلك النَّظام، باحتساب ممتلكات الدَّولة مجهولة المالك، فصار الفرهود فيها، وكلّ حزب ومنظمة لها ميليشيا وبيت مالٍ خاصٍ، ليصبح توزيع «العَدس» إنجازاً لأحط رئيسي وزراء في تاريخ العِراق. فأحدهما كان يأخذ وقتاً مِن اجتماع مجلس الوزراء للهذيان عن فوائد «العدس»! ربَّما كان مأخوذاً بالحديث: «قُدِّسَ الْعَدَسُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا»، وراويه كذاب وضاع(ابن الجوزي، الموضوعات». فلغرام صاحبنا بالعدس، سماه العراقيون«أبو العدس» .
هذا، وللعدس شيء مِن التَّاريخ: عيد بمصر الفاطميّة عُرف بـ«خميس العدس»، والأصل«خميس العهد» القبطي، كان يُطبخ فيه العدس، لكنَّ العامةَ جعلته «عيد العدس» (المقريزي، المواعظ والاعتبار). أقول: لو كان يطول رئيس الوزراء ذلك لجعله عيداً، لتوزيع ربع كيلو منه على الجمهور، ولا يعلم أن الحاكم الفاطمي كان«يضرب فيه خمسمائة، تعمل عشرة آلاف خروبة(عملة تذكارية)، كان الأفضل بن أمير الجيوش يحمل منها للخليفة مائتي دينار، والبقية برسمه، ثم جُعلت في الأيام المأمونية ألف دينار«(المقريزي)...!
كان العَدس مادة ضمن الحصة التموينية في ظل النظام السابق، وكانت توزع بلا تأخير ولا تقليل، وبعد(2003)، وفي ظل وزارة التجارة، التي كانت لحزب«الدّعوة»، سُرق قوت الشَّعب علانيةً وضمنه العَدس، وتراجعت الحصة، مِن(22) إلى بضعة مواد، ليس بينها العدس، الذي شغل اجتماعات الوزراء.
لم نأت بالعدس تقليلاً مِن شأنه، لكنها كارثة وطنية عندما يصبح العَدس أمنيَّة، وشغل الحكومات الشَّاغل! وكي نفهم فداحة المحنة مع هذا المستوى مِن رداءة التَّدبير. وما زال الحديث عن العدس، نذكر مِن معانيه لغةً: شدة الوطء، وهو، مِن غير الغذاء، بثرة تخرج فتعدي، وقيل»هي التي خرجت على أبي لهب فمات منها«(ابن دريد، الاشتقاق). هذا، وما أكثر معاني واشتقاقات العَدس.
عشرون سنة، عمر نصف سُكان الشَّعب العِراقي اليوم، الذين ولدوا على أصوات صواريخ بأمل الديمقراطيَّة، وانتهى منهم قتلى في التظاهرات، في حكومة داعية«العدس»، وحكم الأبناء والأصهار، حتى صار العراقي في ظلهم غريباً عن وطنه، وله القول:«وتساءل المتعجبون لحالةٍ/ نكراء مَن هم أهل هذي الدَّارِ؟ للحاكمين بأمرهم عن غيرهم/ ولصفوةِ الأسباطِ والأصهارِ/ ضقنا بها ضيق السَّجين لقيده/ مِن فرط ما حَملت مِن الأوزار» (الجواهري، في رثاء جعفر أبي التّمن). فأيّ وزر عندما يكون العدس أملاً وتوفيره محنةً، والتَّرغيب به طعاماً، وكأن العراقيين لم يألفوه مِن قَبل؟!