تشهد هذه الايام تسويقا مركّزا لبعض المحليين السياسيين، الذين يجيدون “الكذب المصفط”، حتى ان أحدهم اكتشف في ما صرح به آخر أن قرار تغيير النظام السياسي في العراق قد تم اتخاذه من قبل الدوائر المخابراتية في العالم.
يتشاطرون في عرض “خطة التغيير المحكمة” وكأنها تسربت اليهم من مراكز القرار الدولي، المتحكم في مصير الدول والشعوب. يعرضونها بلغة الواثق، وبمقدرة بلاغية، بعد إضافة شيء من الوقائع والأسماء والأرقام، كي تبدو وكأنها حقائق لا تحتمل الشك. وقد تجاوزوا في صلافتهم الحدود وهم يعرضون سيناريو “اسقاط النظام” وكأنه في مراحل التنفيذ، ويتقدم بانسيابية وفق جدول زمني محدد.
يقينا ان هؤلاء المحليين ليسوا سذجا، وانهم كفاءات ذوو قدرات في المتابعة وجمع المعلومات، ويجيدون إعادة ترتيب المعطيات المعروفة، ويلعبون على مساحة تأمين قناعات بما يصرحون به وكأنه حقائق دامغة، خاصة حينما يكون الحديث حول العراق مثل وحدة دولية ضمن أطماع الصراع الدولي والإقليمي، وهو صراع مصالح لا شك فيه، حيث تتنافس القوى الخارجية على النفوذ في العراق، وهو أحد ساحات التنافس الدولي المعروفة.
يطرحون سيناريو “اسقاط النظام” بثقة الواثقين العارفين بدهاليز المخابرات الدولية، وتمكن خطابهم من خداع أوساط واسعة من بسطاء الناس، والإيقاع بهم في شباك الظنون، بعد تهويل مدروس واستغلالٍ للرغبة العارمة في التغيير. والمدهش هو اتساع تداول تلك الأكاذيب، ووجود من يتبرع لشرح خطواتها والترويج لها والدفاع عنها، ومن يجتهد في تسويقها كوقائع حقيقية، غارقا في وهم وزيف المعلومة والانخداع بها.
ان هدف هؤلاء المحللين يتجاوز الترويج لأسمائهم والانتفاع المادي مما يكسبونه من وسائل الاعلام التي يتقافزون في فضاءاتها، بل هو أخطر من ذلك بكثير. وتبدو مهمتهم اقرب الى مهمة كاسري إضرابات، وذلك حين يشيعون وَهْم “اسقاط النظام بقرار دولي”، وكـأنه قرار مُتفق على تنفيذه، ويرسخون هذه الكذبة لتكون مثل حقيقة لا تقبل الدحض.
ويهدف الدفع في هذ الاتجاه الى أضعاف الإرادة الشعبية الراغبة بالتغيير الديمقراطي الحقيقي بالأساليب السلمية، وذلك عبر إشاعة الاتكالية والاستكانة وانتظار غودو الذي لا يأتي. وهذا هو الهدف ذاته الذي تسعى اليه طغمة الفساد، وتسرق لتتنعم بمباهج الحياة، وتخدر المحرومين بما سيعوضهم عن معاناتهم، وينصرهم ويقيم العدل ويحقق الانصاف وينصر المحتاج ويعين المظلوم.
نعود الى ظاهرة هذا النوع من المحللين السياسيين لنقول انها لا علاقة لها بتحليل الظواهر السياسية من حيث مضمونها ومكوناتها. فواضح للعارف ان ما يصرحون به ليست له علاقة بأسس التحليل السياسي واستشراف المستقبل وعلم التنبؤ والتوقع والتخمين. ولا نص يحللونه ولا مضمون يظهرونه، وليست لهم علاقة بأركان التحليل السياسي.
ان غاية التحليل الحقيقي هي تنوير الأذهان وتقديم معرفة تستند على الأمانة العلمية، التي تعتمد الواقعية بدون التضخيم والمبالغة او التبسيط، وبعيدا عن الأحكام القطعيّة.
فالتحليل السياسي هو فن استشراف المآلات وتوقع الاحتمالات، وليس الترويج لسيناريوات كاذبة.