إعتمدت الدول الرأسمالية، ومنذ عصر التنوير في القرن السابع عشر، فلسفة الليبرالية، التي تدعي قدسية الحرية الفردية، وإحترام حقوق الإنسان في الحياة والإعتقاد والتعبير والمساواة أمام القانون، وبقاء الدولة “حيادية” مع الجميع وبعيدة عن المساهمة في النشاط الاقتصادي. وقد أوجدت البرجوازية، كما هو معروف، وصفتها للديمقراطية، من خلال الفصل بين السلطات التي تعبر عن سيادة الشعب عبر الإقتراع العام. غير أن العقيدة الاقتصادية لليبرالية أدت الى أزمات كارثية متكررة، عادة ما تسمى بالكساد أو الركود، إضافة الى إستقطاب طبقي في المجتمعات وتمييز بشع بين المواطنيين، ليس في الثروة فحسب، بل وأيضاً في حقهم بالخدمات الأساسية.
وللتخفيف من الأثار السلبية الهائلة لذلك، عمدت الرأسمالية الى توسيع دائرة الحقوق لتشمل، ببعض منها فقط، المستغَلين، وذلك من خلال ما أسمي بالسوق الاجتماعي أو دولة الرفاه الاجتماعي، التي لها أنواع مختلفة، على أساس مدى التوسع في الحقوق. ولم يكن هذا ممكنا بدون تغيير في الفكرة الفلسفية، يفضي لتغيير في الممارسة الاقتصادية، مما يسمح للحكومة بشيء من التدخل، لتوجيه الاقتصاد الكلي مع المحافظة على “حرية السوق”. لكن هذا التغيير كشف هو الأخر، وبسرعة عن عجزه في تجنيب الرأسمالية أزمات الركود المتتالية، مما دفع بعتاة الليبراليين - الذين إعتبروه هرطقة فكرية - الى طرح افكار تسفّهه وتدحض مبرراته.
ولهذا، ساد في الربع الأخير من القرن الماضي، تيار سياسي ـ اقتصادي جديد في هذه الفلسفة، أطلق على نفسه تيار الليبرالية الجديدة، الذي تقاطع حتى مع رواد الليبرالية الأوائل، ممن، وإن دافعوا عن فوضى السوق التي تنظم نفسها بنفسها، دعموا تدخل الدولة في توفير بعض الخدمات العامة كالتعليم، أو إشترطوا لشرعية أية حكومة قبول المحكومين بها!
وتنكر الليبرالية الجديدة صراحة، أية سيادة للشعب على الحياة السياسية والاقتصادية، فهي ترى أن السيادة هي للسوق الرأسمالية، التي إذا ما تم بناؤها بشكل سليم، لن تحتاج الى أي تدخل من الحكومة في الاقتصاد، لأن التدخل -برأيهم - يؤدي الى نسف مبدأي الحرية والكفاءة التي تتميز بها هذه السوق. وبما أن الحكومة ممثلة للمواطنين، فإن تدخلهم في الاقتصاد، سيختفي كنتيجة طبيعية، يليه إختفاء تدخلهم في السياسة، التي تتبع الاقتصاد كما هو جلي، مما سيفسح في المجال لإستبداد من نوع جديد.
كما يدعو الليبراليون الجدد الى إخضاع الخطط الإستراتيجية لسرية تامة، وعدم زج الجمهور في النقاش حولها، بل إلهاؤه بالتفكير والحوار في قضايا مختلفة، والإعلاء من شأنها ومكانتها ومستوى مشروعيتها. ومن البداهة أن نستنتج بأن عدم مناقشة الناس لأية قضية تمس حياتهم، بهذا الشكل، سيفقدهم حقوقهم السياسية.
ويلجأ الليبراليون الجدد في المجال الفكري الى تمجيد مزايا السوق الحرة الإستهلاكية، وتسخير كل وسائل الإتصال لتعميم تلك المزايا بين الناس، بحيث يصبح مجرد إنتقادها، خروجاً عن “المنطق”، متبنين شعار (أنا أتسوق، إذن أنا موجود)! ويعمد الليبراليون الجدد، في الجانب الاقتصادي - الاجتماعي، الى “إقناع” الناس بتبني قيم السوق، كعلو المصلحة الذاتية وحق المنافسة، على أية قيم حاكمة، وإيهامهم بأن هذه القيم هي التي تخدم المصلحة العامة، فيما يركزون هم على خصخصة مؤسسات الدولة وتحرير التجارة وإجراء تخفيضات ضريبية كبيرة وتقليل الإنفاق العام، وتقليص الخدمات والرعاية الاجتماعية وتحطيم النقابات (سياسة تاتشر) والتضييق على الحركات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني، حتى بالعنف الدموي إن تطلب ذلك (تشيلي والأرجنتين)، وكل ما يؤدي الى تقليص حجم ودور الحكومة على جميع المستويات.
ويشير بعض المراقبين الى أن فلسفة الليبرالية الجديدة، وخاصة بعد إعتمادها في عهد ريغن، قد أدت الى سيادة القلق وعدم الثقة والعزلة والأنانية وضعف التمكين في ثقافة شعوب الدول الرأسمالية، وخاصة الولايات المتحدة، مما يمثل خطراً جدياً على مبادئ الديمقراطية البرجوازية ذاتها.
لقد عمد الليبراليون الجدد الى تبشيع صورة هذه الديمقراطية، ودعوا للتخلي عنها، وعمدوا الى بذل جهود والى إستثمار موارد هائلة من أجل تحقيق هذا التحول لدى الأمريكيين والأوربيين، وهو ما حقق نجاحات مهمة، كان أبرزها الصعود المفاجئ لليمين المتطرف والحركات النازية، المعادية للإنسان والحياة.
الا أن معالم التصدي لهذه السياسة، على الصعيدين الوطني والدولي، تبرز كل يوم سواء في فشل الليبرالية الجديدة عن تطبيق أفكارها المتطرفة، وهو ما ظهر جلياً أثناء جائحة كورونا، حيث تدخلت الحكومات الرأسمالية في الأسواق ورفعت من الإنفاق العام، أو في صعود المقاومة من داخل منظمات المجتمع المدني وقوى اليسار ومناهضي الحروب والعولمة المتوحشة، تلك المقاومة التي أثبتت من جديد أن شمس الإنسانية تبقى ساطعة، تحرق الحشرات التي إعتادت على أن تقتات على دماء البشر!