"آدميون نحن ولنفس الأصل ننــــتمي ... فكيف نهنأ بالعيش والغير يألمُ"
قفز بيت الشعر هذا الذي اجادت صياغته قريحة الشاعر الفارسي الكوني حافظ الشيرازي، الى ذاكرتي وانا اتابع موجة الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في إيران، وكأن الشاعر الفيلسوف كتبه لهذا اليوم، منتقدا كل متفرج على الأوضاع المأساوية التي يعيش تحت ظلها الشعب الإيراني.
اندلعت الاحتجاجات انتصارا للحريات الشخصية التي يُضيّق عليها النظام في إيران، والتي كانت وفاة الشابة الإيرانية "مهسا أميني" الكردية الأصل، الشرارة التي اشعلتها ردا على انتهاك الكرامة وعلى التنكيل الذي تعرضت له الفتاة من قبل شرطة الآداب (كشت إرشاد)، بذريعة انكشاف خصلة من شعر رأسها، حيث تم تعنفيها وفارقت الحياة بعد اعتقالها وتعرضها الى عنف نفسي وجسدي، غادرته الأنظمة المختلفة منذ قرون.
والتشدد في فرض الحجاب ليس الموضوع الوحيد الذي تُشكو منه الحركات الاجتماعية الايرانية، فلا حرية للعمل الحزبي المعارض، باستثناء حركة الإصلاحيين التي هي احد اجنحة النظام السياسي، والتي تلعب دورها في تنفيس ازمة الحكم عند الاحتقان. فلا حرية للإعلام، وهناك رقابة شديدة على العمل النقابي. اما النشاط المدني العام فحدوده ضيقة جدا. وكل شي في نظام ولاية الفقيه، يجب ان يمر عبر قنوات النظام ورقابته.
الحريات هي عنوان الاحتجاجات هذه المرة، كذلك إعادة تعريف هوية الدولة. ويبدو أن صراع الهوية لن يكون عابرا، اذ لم تعد فكرة الثورة التي تستند عليها فلسفة الدولة الإيرانية، وتتخذها هويّة لها، تغري الشباب الإيراني وتوحده. فهوية (الثورة الإيرانية) لا تتناسب مع منطق الحياة ولا مع المستقبل، حتى امست تلقى الرفض داخل ايران وفي خارجها، حيث يتصاعد الرفض والشجب.
ان الهوية وليس الموضوع المعيشي هي عنوان الاحتجاج هذه المرة، فالأمر ليس كما كان سنتي 2009 و2019، غداة ارتفاع معدلات التضخم وانعكاسها على الاوضاع المعيشية المزرية، ونهب مدخرات المصارف اثر اعلان افلاسها، وعدم وفاء شركات بناء المساكن بتعهداتها.
وما يميز هذه الاحتجاجات عن غيرها هو الهتاف باسقاط النظام، الذي تصدح به حناجر الشباب من مختلف المدن والاتجاهات، فيما يتخبط النظام ويمر بحالة شبه انقسام حول كيفية التعامل مع الاحتجاجات. ويقول المفكر الليبرالي الإيراني امير طاهري ان البعض داخل النظام (دعا الى «القمع الوحشي»، في حين ينصح آخرون بالحوار وإصلاح بعض القوانين". ويضيف ان هناك أمرا واحدا مؤكدا هو (أن بركان الغضب الإيراني لا يزال صاخباً ولا يمكن ترويضه بسهولة).
ولم تنجح محاولات النظام حرف هذه الاحتجاجات في اتجاه الأحقاد القومية، باتهام القوى السياسية الكردية الإيرانية باثارة الشغب ثأرا لمقتل "مهسا أميني"، ولتبرر بذلك قصف كردستان العراق مخلفة ضحايا من المدنيين، بذريعة قصف مقرات الأحزاب الكردستانية الإيرانية.
ويصعب التكهن بمآل هذه الاحتجاجات، لكن الأكيد هو انها سددت ضربة قوية لنهج النظام، وستطلق النقاش واسعا حول هوية الدولة والحق في الحرية والعيش الكريم.
يذكرنا التاريخ السياسي باستحالة دوام تسلط أي نظام سياسي، واستحالة بقائه أذا لم يفهم مزاج شعبه ويكف عن الوقوف ضد تطلعاته، واذا كان يواجه الرفض الشعبي العام.
ويقول التاريخ ان حاجات الانسان لا تنحصر في الأكل والشرب واللباس، مع أهمية ذلك القصوى، بل ان هناك حاجات ضرورية ملحة أيضا، مثل حرية التعبير والتنظيم الحزبي والمدني والنقابي، ومثل التنقل والسفر.
ولقد سقطت أنظمة لأنها جوّعت شعوبها، ولم تدافع شعوب عن أنظمة صادرت حرياتها ومارست القمع ضدها، فتركتها تتهاوى وتنهار.