لا تسهل معرفة الصراع الاجتماعي في العراق دون التمعن في الفجوة الطبقية الهائلة وأعبائها الكارثية على المجتمع، والتي تتسع يوما بعد اخر. اذ تتركز الثروة بيد حفنة نهابين، ومقابلها تزاد معدلات الفقر ويزحف العوز ليسحق كل يوم فئات اجتماعية أخرى، ويجعلها هدفا للتهميش. وإذ تتسع مساحة المهمشين، تبرز الحاجة الى تحليل طبقي علمي صارم. ذلك ان افقار الشعب ليس فعلا عشوائيا يحدث صدفة، بل انه وعموم عملية تجويع الطبقات والشرائح الاجتماعية الكادحة ودفعها الى مستوى الفقر ودونه، تم ويتم وفق سياسية اقتصادية فاسدة مدروسة مقصودة ومتكاملة الابعاد، ووفق رؤية تدميرية انتهت بتكوين طبقة اجتماعية طفيلية مترفة ناهبة للمال العام، وليست لها أدنى علاقة بالاقتصاد الحقيقي. فهي لم تكسب دولارا واحدا من الاستثمار في الصناعة او الزراعة، بل جمعت ثرواتها من صفقات الفساد، ومن مزاد العملة، حتى تمكنت مجموعة من المرابين الصغار المتاجرين بالدولار الى أصحاب مصارف وفضائيات واطيان واموال، بعد ان كانوا في حقبة الدكتاتورية لا يملكون غير (جنابر وبسطيات) على رصيف شارع الكفاح. وكانوا مرصودين من الامن الاقتصادي آنذاك، ولهم هامش ربح محدود لا يُسمح بتجاوزه.
غير ان طغمة الحكم وفي إطار تأمين شريك لها لتمرير صفقات الفساد والمقاولات والتجهيزات، وغير ذلك من طرق نهب المال العام، صيّرتهم أصحاب شركات تحويلٍ مالي وبنوك، ومالكي جامعات، ومتحكمين بالاقتصاد، ونمّت أموالهم من السحت الحرام، وصعّدت ارقام ارصدتهم بصورة اغرب من الخيال، حتى احتلوا مقاعد مخزية في نادي حيتان الفساد، وتكونت منهم طبقة اجتماعية ملوثة تسند طغمة الحكم في الامساك السلطة.
تجدر الإشارة ان الاقتصاد الأحادي، الريعي، واقتصاديات الفساد، والسياسة الاقتصادية الليبرالية المتطرفة، التي وصلت بها خستها حد التطاول على العملة العراقية واضعاف قيمتها امام الدولار تحت غطاء "قانوني"، ما وفّر هذا للنهّابين فرصة مؤاتية لسرقة أكثر من 25 بالمائة من مدخرات العراقيين. حتى ان ما كان نشاطا ماليا خفيا للنهابين، ابان ابتعادهم عن الانظار في السنوات الأولى بعد التغيير، تحول اليوم الى حضور صلف في مركز القرار، دون خوف او وجل، بعد ان انفتحت لهم أبواب العملية السياسية، وأسسوا أحزابا سياسية حليفة للمتنفذين، فيما تربع بعضهم نوابا في مجلس النواب، وشكلوا تحالفا طبقيا سلطويا يضم طغمة الفساد بكل تصنيفاتها.
وطبيعي ان مشروع نهب كهذا لا يكتمل دون الاستناد على خلفية أيدلوجية مجربة، وليس افضل لهم هنا من وصفات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، وهي الاذرع المالية للإمبريالية، حامية مصالح الارادات الدولية المهيمنة والمتحكمة بحركة المال على المستوى العالمي.
انه منهج التوحش هذا الذي قُسم الشعب بموجبه الى طبقتين، وتولدت هوّة اجتماعية هائلة عصية على الردم، في ظل غياب تام للعدالة الاجتماعية. هوة عميقة بين طبقة تلعب بالمليارات، وطبقات اجتماعية محرومة تلهث وراء لقمة الخبز والكرامة.
وستقرر هذه الطبقات مصيرها في يوم آتٍ لا محال، وستفرض ارادتها وتنتزع حقوقها من النهّابين.