تلفت انتباه المتابعين السرعة التي تتشكل بها الطبقة الاجتماعية الجديدة في العراق، التي تتصدرخصائصَها الطبيعةُ الطفيلية غير المنتجة والمتخمة بالفساد، وقوامها حيتانُه التي قفز ثراؤها وتصاعدت ارقام ارصدتها بصورة هائلة من المليارات الى التريليونات، معتمدة في ذلك على اقتصاد الفساد كمنهج وحيد لثرائها الفاحش، عبر نهب منظم للمال العام بكل طرق السرقة وبأكثرها صفاقة وتحديا. وفي اثناء ذلك احتكرت السلطة السياسية باسم الديمقراطية، بعد ان أفرغتها من قيم المواطنة والمشاركة والعدالة والمساواة والضمان الاجتماعي، وجعلتها مجرد انتخابات شكلية فاقدة المعنى، أدت في النهاية الى تراجع نسبة مشاركة الناخبين الى اقل من 20 في المائة، حيث صار هدفها بنظر المواطنين اضفاء الشرعية مهما كانت مزيفة على سلطتهم، بهدف تثبيتها وترسيخ قبضتهم عليها، وليس لإحداث أي تغيير.
لقد أدى اقتصاد الفساد الى نشوء هذه الطبقة الطفيلية في المجتمع، الناهبة للمال العام من خلال مركزها في السلطة، والتي ينصب تفكيرها على ابتكار كل جديد في مجال سرقة الأموال العامة. ولم يكن عقد “ بوابة عشتار” وما ترتب عليه من فرض غرامة على الدولة بمبلغ 800 مليون دولار، الا احد الطرق التي لا تأتي على بال اساطين الفساد في الأنظمة الفاسدة عبر العالم على مر تاريخها. فيما حيّرت العملية المنظمة والمنسقة من خمس جهات حكومة، التي نُهب بفضلها 3,7 ترليون دينار من “حساب الامانات” لدى الهيئة العامة للضرائب، وسميت “سرقة القرن”، حيّرت بطريقتها المبتكرة كل مافيات العالم، التي ستبدأ تتعلم دروس النهب من طغمة الفساد في عراقنا المنكوب. وهي الطريقة التي يعجز عن تصورها كاتب قصة المسلسل الاسباني المعروف باسم “البروفيسور” والذي انتجته شبكة نتفلكس.
لن يفلحوا قطعا كما افلحت طغمة الفساد المتحالفة مع طغمة الحكم في نهب هذا المبلغ الفلكي، بعد ان نجحت في جمع وتنسيق خمس مؤسسات تابعة للدولة، تنفيذية ورقابية، ويسرت ارتكاب هذه السرقة الهائلة، واشتركت فيها لإتمام العملية. وهنا لم يعد التوصيف الشائع:”إساءة استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة وشخصية” يعكس حقيقة الموظف الحكومي الفاسد، الذي يخالف ويرتكب جرم الرشوة وغيره من الافعال المشينة التي تجاوزتها كثيرا، حتى اصبح المتنفذ جزءا من منظومة فاسدة تمكنت من السلطة السياسية، ورسخت فيها اقدامها.
وطبيعي ان تثير الحياة الباذخة لحيتان الفساد وسلوكهم الاستفزازي، نقمة الطبقات الشعبية الفقيرة، التي بالكاد يؤمن الكثير الكثير من منتسبيها قوت يومهم، ويعيشون على الهامش تحت خط الفقر. وهذا كله وغيره ولّد وسيولد اختلالا اجتماعيا لا ريب فيه، واخلالا بمبدأ العدالة الاجتماعية يصعّد الشعور بالظلم الاجتماعي.
ان ما تقدم يتيح لنا التوصل الى استنتاج أساسي، مفاده ان لا معنى لرؤية التغيير ومنهجه ان لم يقوما على إلغاء أسس التفاوت الطبقي، المولّد لأكبر المظالم والحرمانات. فلا استقرار مجتمعيا من غير انهاء الاستغلال والتهميش، ولا سلام اجتماعيا من دون تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل نظام سياسي، يكون مبدأ المواطنة لا غيره وحدة البناء وأساسه.