رغم فترة الصمت المبررة لأكثر من سبعة شهور أشبه ما تكون بحالة من القنوط والترقب، يكتنفه نوع من الاحتجاج وإدارة الظهر لما يجري في بلد يتهاوى في مستنقع الضياع يوما بعد آخر، دون بارقة أمل حتى وإن كانت سرابا، لكننا نصبح ونمسي على أخبار تعمّق من جراح الوطن المنكوب، حتى بات من المستحيل المراهنة على وقوع أي تغيير من لدن من بيده قرار التحولات، صغيرةً كانت أم كبيرة، وسط صمت غريب وموجع، والأوضاع تسوء بشكل متواصل ودون توقف، وكأن الهوة الواسعة بين من يجلس على دفة القرار ومآسي الأوضاع الكارثية التي تمر بها البلاد، وبين شعب منكوب ومغلوب على أمره فقد بوصلته للتغيير ولم يعد حراكه كما كان سابقا، يشكل بارقة متنفسا عليلا للخروج من عنق الزجاجة الذي بدأ يضيق يوميا حتى عاد الخروج منها ضربا من المستحيل.
قد يستغرب القارئ وكل من له باع ومعرفة بما يجري في العراق، إن ما ذهبنا اليه هو ضرب من المستحيل، والحقيقة أنه بات المستحيل بعينه، لتفاقم الأوضاع المأساوية بشكل مخيف، بحيث لم يسلم قطاع واحد من سبل العيش بكل حيثياته في بلد له من الأموال والخيرات والكفاءات والتاريخ الحافل بالعطاء وسواها من مميزات تجعل منه في مقدمة دول العالم سيما المتقدمة منها، وكم سمعنا وعاينا وتفاخرنا في بداية السبعينات، بأن هذا البلد المسمى عراق سيصبح لأن يكون يابان الشرق، وهذه الحقيقة لم تكن غائبة عمن عاصر تلك الفترة وراهن على تحقيقها، بل وتفاخر بها، على أمل أن يتباهى بين شعوب الأرض أنه ينتمي لبلد له من الإمكانات والقدرات والخيرات والكفاءات ما يؤهله لأن يحقق قفزات نوعية في تحقيق منجزات تضاهي الدول المتقدمة.
ولكن ما الذي جرى؟
مر العراق عبر مراحل من تاريخه في فترات من الفراغات السياسية والفكرية والثقافية والسيسيولوجية بسبب طبيعة الأنظمة التي تسلطت عليه عبر حقب زمنية متفاوتة ومختلفة زمنا وطبيعة وتكوينا، فسحت المجال لصعود مخلوقات لا أهمية لها ولا تحتكم على مؤهلات سياسية وفكرية ووطنية، سوى تلك السلوكيات الفجة والجاهلة والمتخلفة، يمثلها مجموعة من الأميين والجهلة والخارجين على القانون، معروفين بسلوكهم العدواني وعدم احترامهم لأدنى معايير الوعي والتكوين الفكري والنزوع الوطني ومسايرة ما يجري من تحولات عالمية، فأطلقوا العنان لنفوسهم المريضة بالوقوف بعدوانية بهيمية لا مثيل لها في تصفية وابادة كل من يقف بوجههم أو يغايرهم وعيا وفكرا ووطنية، وبقناعات لا تقبل الدحض من قبلهم، بأنه هو الطريق الأسلم والأضمن للامسك بزمام السلطة والتشبث بها والقضاء على كل من يخالفهم في هذه القناعة الفجة، مما دفعهم ذلك بارتكاب مجازر ومذابح وتصفيات وارتكبوا مغامرات قاتلة لا تقتصر على أبناء شعبهم، بل حتى مع الدول التي تناصبهم العداء كما يظنون، إن هم أرادوا أن يتشبثوا بالسلطة حسب قناعاتهم الساذجة. لم يأت ذلك بحكم جماعي متعدد الآراء والأفكار، بل ببروز شخصية فضة وصارمة لا يتردد في نحر الآلاف بمجر الشك بولائه له ولزبانيته حتى امتدت يد النحر الى أقرب المقربين له وعاد الحكم الفردي والقمعي سمة ملازمة له ووقع ما وقع من نتائج كارثية نعيش تبعاتها حتى يومنا الأسود الراهن.
لعل القارئ العزيز قد تبيّن من هذا الاسترسال، من نقصد ويعرف جيدا ما آلت اليه تلك الممارسات الفردية القاتلة الى كوارث ما زال العراق والعراقيون يئنون تحت وطأتها ومن هول وبالها. ولم نعن هنا أننا نعيد ذات الأحداث التي يعرفها القاصي والداني وما سببته من ويلات لا تعد ولا تحصى، إنما ما قصدناه هنا هو راهن ما نعيشه اليوم من فواجع وآلام لا تختلف عما سبقها ووضع البلاد على سكة المجهول بسبب مجيء عينات لا تحتكم على أدنى معايير الإنسانية والوطنية، مخلوقات رهنت البلد وفقراءه تحت رحمة التفكك والوهن والضياع والفقر والإهمال وغياب العدالة الاجتماعية بالمطلق، فباتوا يعيشون في واد والشعب المظلوم في واد آخر. والغريب في الأمر أنهم يقولون ما لا يفعلون تحت يافطات دينية مرائية قصد استغفال شرائح لا تملك من الحصانة الفكرية والوعي في ابسط حالاته ما يجعلها تسوف اباطيلهم واكاذيبهم، مما حدا بالبسطاء لاختيارهم لاستلام دفة القرار واشاعوا ما اشاعوا من فساد ونهب وفوضى وصعود جهلة ومنحطين ومن عافتهم الأرض، وباتوا أمرا واقعا ومخيفا معززا بالعديد من البلطجية والخارجين عن القانون من حملة السلاح المنفلت تحت ذرائع المقاومة والدفاع عن المذهب والدين والحرمات، مما تبين للبسطاء أن هذه الادعاءات مجرد ذر الرماد في العيون، وبقيت دار لقمان على حالها في يومنا الأسود والكارثي.
ترى ما هو السبيل للخروج من هذه المحنة والوضع السياسي والاقتصادي والثقافي ينذر بالشرور وعظائم الأمور؟ والفاسدون يعززون مواقعهم ويوسّعون من امتداداتهم لغرض بسط نفوذهم ونشر رعاعهم من اجل تتمة الخراب ونهب ما يمكن نهبه وتهريبه من الأموال وإبقاء الجياع يلوكون الصخر دون أن يرف لهم جفن أو يلتفتوا لأولئك المغلوبين على أمرهم ممن دفعتهم مقامرتهم ومراهنتهم على تحسين أوضاعهم حين وصول اللصوص والمنحرفين لدفة الحكم وسلطة القرار.
واليوم وبعد كل ما جرى من كوارث وما يعيشه العراقيون من احباطات وهم يئنون ألما وحسرة على ما قدموه من قرابين بالمئات من الضحايا ومن خيرة شباب العراق وما تعرض له الآلاف من المنتفضين للجروح المميتة والقاتلة في ثورة تشرين المظفرة والمحاولات التي تعيد أمجاد تلك الأيام الخالدة من الحراك التشريني المبارك، يدرك أبطال تشرين أن ثورتهم تغلي تحت الرماد ولا يظن الخائبون والفاسدون بأن جذوة الثورة المباركة قد خمدت أو انطفأ وهجها، بل أن من يحرك الثوار من الشباب الوطني الواعي ومن يقود المسيرة الظافرة من مفكرين وعلمانيين وتقدميين احرار ومنظمات مجتمع مدني على قدر من الوعي والترقب الحذر، على بينة تامة أن الحراك بتوقيتاته المعقولة والمناسبة سيحين وقتها عاجلا أم آجلا، في الوقت الذي نسمع من ذيول وخونة الوطن من اتباع الأجنبي، أن ثورة تشرين قد انتهت وتم اخماد جذوتها، وهنا يتضح مدى التخلف والسذاجة وما هم عليه، ناسين أو متناسين بأن حركة الجماهير الرافضة للأوضاع الهجينة لا يمكن أبدا القضاء عليها أو تجاوزها أو الظن بأنها انتهت وهي تخضع لحركة التاريخ والتغيير الحتمي لإزالة الشائن والرث والفاسد وإعادة بناء المجتمع الخالي من كل أنواع اللصوص والاراذل والفاسدين ومن يتبنى نظام المحاصصة الرث وتنظيف الوطن من الطارئ والمرائي.
إن ثورة تشرين المظفرة ستبقى ناهضة وستظل مصدر قلق ورعب للفاسدين وهم يعلمون جيدا أن الطوفان قادم لا ريب، وسط هذا العبث الذي يمارسونه ونظام المحاصصة الذي يراهنون عليه للامساك بامتيازاتهم ونهبهم لقوت الجياع وعبثهم الذي ما توقف يوما لجر البلاد الى حالات من الخراب، دون أن تتحرك ضمائرهم التي ماتت أو رهنوها بيد من لا يريد الخير للبلاد والعباد.
يراهن العراقيون اليوم على القوى الوطنية الناهضة، قوى التغيير التي وضعت نصب أعينها أن لا سبيل للخروج من كوارث ما يجري، إلا بالحراك الجماهيري المنظم وتجنيد كل الطاقات والقوى الحية وبفعل جماهيري مزلزل لإحداث التغيير لهذه المنظومة الفاسدة، وبدأت على إثر تمادي الفاسدون في مواصلتهم للعبث الصبياني، بخلق حراك جماهيري يقوده رجالات وضعوا برامج مشهود لها بواقعيتها وفكرها النيّر وحرصها على خلق جبهة وطنية ناشطة من كل شرائح المجتمع العراقي المتضرر من نظام المحاصصة السيْ، وهذا الحراك المبارك يتطلب صبرا بوضع برامج عقلانية من أجل شحذ كل الطاقات الفاعلة للوصول الى الهدف المنشود.
لهذا بات العراق ينتخي كل الشرفاء لتحقيق الأهداف الوطنية وإعادة العراق الى هيبته داخليا وخارجيا والابتعاد عن الوعود الكاذبة التي يطلقها الفاسدون بين حين وآخر من أجل تنفيذ خططهم الخبيثة، وعاد العراقي اليوم على بيّنة من تلك الألاعيب التي ما عادت تنطوي على أحد، وها هي عجلة الفساد والمحاصصة تدور في ذات الفلك الذي سبب كل هذه الكوارث، فلا يغرنكم أيها العراقيون ما تسمعون وتشاهدون من أكاذيب من أجل ذر الرماد في العيون، لأن من يقود البلاد اليوم باتوا معروفين بألاعيبهم وخداعهم وأكاذيبهم، ونحن نتابع مسلسل الخراب الذي ينتشر بشكل مخيف وسط كل هذا الهراء الذي يصدر من المنتفعين واللصوص وفاقدي الضمائر والقيم.
والى النصر المؤزر