لا تنحصر جرائم حيتان الفساد بنهبهم التريليونات في إطار سرقة المال العام فقط، فالأخطر هو صيرورتهم طبقة اجتماعية مستغِلة، تفرض هيمنتها الاجتماعية ـ الاقتصادية، على المجتمع، وترسي نمط سلوك استهلاكيا باذخا واستفزازيا، من دون ادنى اعتبار لمشاعر ملايين المهمشين، الذين يئنّون تحت خط الفقر، ويسكنون العشوائيات التي لا تصلها ابسط الخدمات الضرورية. فيما الأكثر خطورة هو فرضهم نفوذهم السياسي على المجتمع، حيث حصل صقورهم على مناصب سياسية، مستفيدين من امتيازات تحالفهم الطبقي مع طغمة الحكم، وبذلك اعاقوا ويعيقون تقدم مشروع التغيير والإصلاح.
ان تراكم المال بيد حيتان الفساد لا علاقة له بأي عملية اقتصادية حقيقية، إذ لم يتكون عبر الاستثمار في الصناعة الوطنية ولا مما قد يدره عليهم الانتاج الزراعي من خيرات. انما يأتي ثراؤهم من دون أي فعل اجتماعي، وليس له أدنى صلة بعلاقات الإنتاج. حيث حوّلهم اقتصاد الفساد الى رأسماليين، رغم ان مواصفاتهم لا تتطابق من قريب ولا من بعيد مع مواصفات اقرانهم في المجتمعات الرأسمالية، كما حددها كارل ماركس.
ان جرائم سرقة الأموال العامة ونهبها هي التي كونت منهم طبقة اجتماعية طفيلية غير منتجة، فاسدة ومشوهة ورثة، خلّفت وراءها فوارق طبقية هائلة، وعدم مساواة اجتماعيا كارثيا. طبقة أصبحت أشد خطورة عندما وضعت الاستحواذ على السلطة السياسية ضمن أولوياتها، مستهدفة تأسيس نظام استبداد مالي ظالم، يقسم المجتمع الى طبقتين أساسيتين: طبقة اجتماعية تعيش ذرى الترف، تقابلها طبقات اجتماعية تعاني الفقر المدقع.
تبين التجربة التاريخية أن الطبقة الاجتماعية المستغلِة أكثر يقظة على مصالحها الطبقية، كما انها من اجل تراكم المال لا تكترث للمبادئ الانسانية والقيم الخيرة، وهي متحفزة لكل أنواع الصراع من اجل مصالحها الطبقية، ومسارعة الى امتلاك أدوات السيطرة والقمع والعنف، والاعلام المزيف والدعاية. كما انها لا تتردد في انتهاج التوافق وعقد التحالفات السياسية الطبقية مع اقرانها. وقد استخدمت كل وسائل التزوير والغش والخداع لتمرير بعض ممثليها الى السلطة التشريعية، ليصبحوا زعماء طوائف لها و(تيجان رؤوس)، لا يحلمون بأقل من الامساك بالقرار السياسي والتحكم به، وذلك بعد ان أمّنت لهم المحاصصة مواقع مهمة في الدولة. إذ حصلوا على درجات خاصة، وحقائب وزارية ضمنت لهم السيطرة على مقدرات الدولة، ليفرضوا هيمنتهم من خلال السلطة، كما من خلال الأيديولوجيا كما يذهب غرامشي. وبهذا أصبح فسادهم قاعدة للهيمنة الطبقية وأداة للقمع الطبقي.
ان حجم المنتفعين من صفقة القرن وعملية تهريب النفط، وأمثالهم ومجاميع الفاسدين، سواء الذين تم كشفهم او من جرى التستر عليهم. هذا الى جانب المسؤولين عن إدارة ملفات الفساد كافة، والتابعين والابواق والعصابات الاجرامية، يشكلون جميعا الطبقة الاجتماعية المهيمنة. الطبقة التي مكنتها طغمة الحكم من العبث بأموال الشعب، بعد ان أمّنت لها الأجواء ووفرت لهم تفوقا اجتماعيا مخادعا، وسوقت ممثليها كزعماء سياسيين اخترقوا مؤسسات الدولة بما فيها الأمنية، وتمكنوا من شراء كبار المنتسبين وبائعي الضمائر والمطبلين والابواق، وبنوا جيوشا الكترونية لتزويق أسماء الحيتان، عبر عمليات تسويق مدروسة. وبضمن ذلك رعايتهم لبعض الفعاليات المؤثرة في الرأي العام، وتصديرهم كداعمين للثقافة والفنون، واقامتهم الحفلات الخيرية الاستعراضية، وادعاء الإنفاق على بعض المحتاجين. وهم بهذا لا يختلفون عن سارق الراتب الشهري لعامل فقير في باص النقل العام. فبعد ان يحرج ضحية السرقة حين لا يجد في جيبه اجرة النقل، يبادر السارق المحتال الى استعراض شهامته المخادعة، فيدفع أجرة الرجل المسروق من مال السرقة، وينال كرمه المزيف استحسان الاخرين.
مفارقة ما بعدها مفارقة.. فاسدون ينهبون اموالنا، وينفقون منها على تسويقهم زعماء، يطبل لهم الطبالون، ويتربعون على العرش ليتحكموا فينا ويفرضون هيمنتهم على الشعب.