لم تغادر ذاكرتي مفارقة معبرة، حينما اجابني اخي في اول لقاء جمعنا بعد انقطاع دام سنوات، ابان حكم النظام الدكتاتوري المقبور، عن سبب اكثارهم من إنجاب الأطفال، فقال: "هذه هي النتيجة الطبيعية للحرية الوحيدة المتاح لنا ممارستها في ظل الدكتاتورية".
ويبدو ان مجلس النواب استكثر علينا ممارسة ما كفله لنا الدستور من حرية التعبير، ومن حق في الحصول على المعلومة، فانكب على تشريع قانون يكبت الحريات، ويرجعنا عن قصد الى زمن تكميم الافواه.
وفي الوقت الذي أكمل فيه المجلس القراءة الأولى لقانون جرائم المعلوماتية، أصدرت محكمة جنايات الرصافة حكما على الشاب حيدر الزيدي بالحبس الشديد لمدة ثلاث سنوات، وفق المادة 266 من قانون العقوبات ذي الرقم 111 لسنة 1969، الصادر عن مجلس قيادة الثورة المنحل، عقابا له على مشاركته منشورا في الفيس بوك يتهجم على قيادة الحشد الشعبي، وقت قمة التصعيد الاحتجاجي وفورة الغضب العارم على نظام المحاصصة والفساد.
الظاهر ان هذا هو المرتجى من تشكيلة مجلس النواب في دورته الخامسة الحالية، التي لا تختلف في شيء عن الدورات السابقة من حيث الغياب شبه التام للمعارضة الرسمية. وقد تناسى الصقور فيه ضجيج أصواتهم، وهي تصدع الرؤوس بشأن "الظلم الكبير الذي تعرض له الشعب العراقي وبالأخص الطبقات الفقيرة" جراء التداعيات التي خلفها تخفيض قيمة الدينار امام الدولار، وتعهدهم برفع هذا الجور عبر ارجاع قيمة الدينار الى سابق عهدها، وتعديل ما أقدمت عليه الحكومة السابقة وفق منهجها الاقتصادي الاهوج، الذي لم ينتج عنه غير اتساع الفجوة الطبقية بين أصحاب التريليونات، وملايين المحرومين المحصورين تحت مستوى الفقر. وبدلا من اعادة قيمة الدينار العراقي، نشهد تدهورا مقلقا لقيمته امام الدولار، حتى تجاوز سعره 1500 دينار.
في الوقت عينه لم يكترث مجلس النواب لإطلاق سراح نور زهير، احد حيتان الفساد والواجهة التنفيذية لما عرف بـ "سرقة القرن"، التي تسترت عليها كما يبدو حيتان فساد اكبر منه، استغلت نفوذها في إتمام السرقة وتهريب الأموال، وتمكنت من اطلاق سراح هذا الحوت من قبضة العدالة، فيما كان الناس يتطلعون الى "يد من حديد" تضرب الفاسدين، والى معول يقتلع الفساد من جذوره.
لقد هزّ ارتخاء يد الحكومة في اول امتحان جدي لربطها الاقوال بالأفعال، آمال الشعب المتطلع الى فتح ملفات الفساد وعدم التهاون مع المفسدين.
وما من أمل في المعارضة الرسمية، التي لا يشغلها سوى الصراع على توزيع المناصب، والاستحواذ على ما يمكن من الدرجات الخاصة وحصرها بيد الاتباع والمريدين، بعيدا عن معايير المهنية والكفاءة والخبرة والنزاهة.
ستة أسابيع لا أكثر مرت على حكومة السوداني، لكنها كادت تكون كافية لتبديد آمال من وثقوا بتوجهاتها وبصدق وعودها، لجهة التصدي لملفات الفساد. فقد خيبت تلك الآمال سرعة وطريقة الافراج عن الحوت نور زهير، التي بيّنت عدم قدرة هذه الحكومة على المساس بطغمة الفساد.
اما بخصوص الوظيفة العامة، فقد حصرها منهج المحاصصة بين اجنحة المتنفذين في تحالف الإطار الحاكم، فيما يذرف الدينار الدموع وهو يقف ضعيفا واهنا امام الدولار.
وفي الوقت ذاته فان الوعد الذي قطعه رئيس الحكومة عند لقائه مع مجموعة ادعت تمثيل انتفاضة تشرين، بإنهاء ملف محاكمات الناشطين المدنيين، انتهى بالاعلان عن سجن الناشط حيدر الزيدي ثلاث سنوات مع الحبس الشديد.