تبدعُ المجتمعات المقهورة في اغتنام ما هو غير سياسي في ظاهرهِ (كالفن والرياضة والأزياء والنكتة) للتعبير التنفيسي العميق وغير المألوف عما هو سياسي في جوهره غير المعلن. فخصمُها (أي النظام السياسي) لا يجيد إلا قمعها بالعنف المؤسساتي المباشر أو بالعنف الأيديولوجي الضمني، ولذلك هي تناوره بأدواتٍ مبتكرة لا يجيدها؛ بل إنه (أي النظام السياسي) قد يضطر لمجاراة هذه الأدوات -حد التماهي بها- سعياً لاحتوائها أو تجييرها لمنافعه السلطوية.
وقدمت بطولة “خليجي 25” لكرة القدم المنعقدة مؤخراً في العراق/ البصرة، أنموذجاً لما يمكن تسميته “ممارسة أقصى السياسة بأدوات الرياضة”. فما حدث على مستوى الجموع المليونية التي واكبت الحدث ميدانياً وتلفازياً وإلكترونياً، وعلى مستوى مؤسسات الحكم الراعية له، خرج من إطاره الرياضي الاحترافي المحدود ليدخل في منطقة التعبير السياسي الواسع عن قضية إسمها “رمزية استعادة الوطن” لدى الجموع، وإسمها “إعادة إنتاج الشرعية” لدى النظام السياسي. وكلا الطرفين زاولَ كلَّ ما يستطيع من ممارساتٍ متاحة ليمتص نسغَ الرياضة ويحقنه في عروق السياسة.
وإن لحظة “خليجي 25” السياسية هذه لا يجوز فصلها تحليلياً عن مجمل الخصومة النفسية المتجذرة عميقاً بين مجتمع يقاوم القهر ومنظومة حاكمة تمارسه. فإذا كانت تلك اللحظة قد تميزت ظاهرياً بـ”تنسيقٍ” مهم بين الطرفين لإنجاح هذا الحدث الرياضي غير المألوف عراقياً منذ حوالي أربعة عقود، فإنها تنطوي أيضاً على تنافس صامت وناعم بينهما للاستحواذ على الحدث وتسويقه لصالح أحدهما.
فالجماهير زحفت – بوسائل متنوعة- لتجعل من كرة القدم أداة آنية للتعبير عن ذات جمعية مستميتة لاستعادة كبريائها الوطني أمام الوافدين من دول خليجية ازدهرت هوياتها الوطنية قبالة تفتيت الهوية العراقية طوال عقود طويلة شهدت خنق العراق وإنعاش تلك الدول. وفي الوقت نفسه، استمات النظام السياسي للظهور – ولو لمرة واحدة- بعكس جوهره الرث والمفتقد لقيم الجمال والتحضر، إذ بات يهرول خلف الإيقاع المجتمعي العفوي ليتوحد به ويسطو على فضائله، فيسرد أخيراً قصة “نجاح” واحدة حققها رياضياً بعد عقدين من الحكم الفاشل سياسياً.
سيكولوجيا الإبهار الجمعي
نظراً لكثرة وتشعب المعطيات والوقائع التي رافقت أحداث خليجي 25، فيمكن – من منحى اختزالي- الحديث عن نمطين سيكولوجيين أساسيين برزا لدى الجمهور والسلطة، مع التوكيد أن ما حدث يمكن مقاربته من مستويات تخصصية اجتماعية أخرى متعددة.
فمن خلال سلوك الضيافة والسخاء والإيثار الذي مارسه المجتمع البصري تجاه آلاف الضيوف الوافدين (خليجيين وعراقيين من محافظات أخرى)، والحشود الكبيرة من فئات سكانية متنوعة سافرت من مختلف مناطق العراق لحضور المباريات وحفلي الافتتاح والختام في البصرة، وما نقلته القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي من اهتمام جماهيري شديد وحماسة رياضية ووطنية غير مسبوقة نحو هذا الحدث حدّ تناسي كل أزمات البلاد الأخرى الماثلة، ومشاهد الفوضى لتكدس عشرات آلاف المواطنين عند بوابات الملعب الرياضي الرئيسي في البصرة (ملعب جذع النخلة) لساعات طويلة سعياً لولوج الملعب بأي طريقة، من خلال كل ذلك يمكن القول أننا أمام نمطٍ من “سيكولوجيا الإبهار الجمعي” مارسها الجمهور العراقي تجاه ذاته والآخرين.
وهذه النمط السيكولوجي ينطوي بدءاً -في معناه الخام-على حاجة بشرية عميقة لإبهار الآخرين Need to impress others، عبر سعي الفرد لإدهاش من يلتقيهم بالمقدار الكمي والنوعي الذي يحمله من مزايا وفضائل ومحاسن، بصرف النظر عما إذا كانت موجودة بالفعل أم لا. وهو في ذلك يعدّ ميكانزماً هجومياً ودفاعياً في آن معاً، يتم اللجوء إليه في الحالات الفردية المتوازنة بوصفه نمطاً نرجسياً معتدلاً من خداع الذات المفيد لتوكيد الثقة بالنفس والرغبة بالاستحواذ على اهتمام الآخرين وإثبات عدم الفشل، فيما قد ينحرف في حالات أخرى إلى سلوك أناني وطفيلي متطرف يعتاش على التهام طاقة الآخرين دون مراعاة حقوقهم النفسية.
وفي السياق الجمعي -وهو محط اهتمامنا هنا- نجد أن الجمهور العراقي قد مارس هذا الإبهار بوصفه ميكانزماً تعويضياً لاشعورياً ليندهش بنفسه وليُدهِشَ الآخرين أيضاً (أي نحو الجماعة الداخلية والجماعات الخارجية معاً)، فيحقق توقيراً عالياً للذات الوطنية الجامعة الباحثة عما يرممها ويعوضها مما حلّ بها من استبعاد وتفتيت وتبخيس لقيمتها، والمتعطشة لتحقيق انتصار رياضي إقليمي واحد وسط سلسلة غير منتهية من هزائم سياسية محلية ودولية حلت بها.
فقد شهدنا طوال أسبوعين سخاءً واحتضاناً غير مسبوقين مورسا جماهيرياً نحو الضيوف، وما رافق ذلك من ترويج كاسح للسردية المجتمعية عن أصالة العراقيين وتفردهم في النبل والشهامة والكرم والإيثار عبر التاريخ، أي قيام العراقيين أنفسهم بتعظيم شخصيتهم الاجتماعية وتنزيهها وأمثَلَتِها (إسباغ المثالية)؛ فضلاً عن الرغبة المستميتة لدى الحشود المكتظة في البصرة وغيرها من المحافظات للتعبير عن قوة الانتماء المدهش لوطن قديم/ معاصر إسمه العراق من خلال تشجيع منتخبه الكروي للفوز بكأس البطولة. وكل تلك المعطيات تعاضدَت “رياضياً” لتشكل هذا الميكانزم الإبهاري الذي استعان بمادة سيكولوجية محفِّزة وكامنة وقابلة للاستدعاء وللعدوى الانفعالية عند الضرورة، هي الهوية الوطنية الجامعة.
فالهوية الإبهارية التي تم إبرازها وتقديمها في سياق رياضي، إنما مارست وظيفة سياسية تعويضية بديلة لعدم قدرة الجمهور – معظمه شبابي- على التعبير عنها بوسائل سياسية مباشرة في ظل أوضاع الإحباط السياسي والاكتئاب السياسي والعدمية السياسية التي شاعت بعد حراك ثوري مستميت في تشرين 2019 تم إجهاضه بوسائل الثورة المضادة من قمع وتضليل وتخوين وشيطنة.
إلا أن هذا النزوع للإبهار الجمعي اتخذ -في بعض الحالات المحدودة- توجهاتٍ نرجسية جمعية حادة اتضحت بشكل خطاب شعبوي تبسيطي أطلقه البعض ليجعل من المؤازرة الانفعالية الشديدة للمنتخب الوطني معياراً أوحداً للتعبير عن الوطنية. وذهب هذا البعض إلى أن يصنع من بطولة الخليج -ذات الأهمية الرياضية الهامشية دولياً- ومن هذا المنتخب -المتواضع المستوى- قضية مصيرية “كبرى” في مقابل تصفير الاهتمام بأي قضية جذرية أخرى ماثلة في المجال العراقي العام (كتدهور قيمة الدينار العراقي وسرقة القرن وانتهاك السيادة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وغيرها). فأصبحت كرة القدم – لدى البعض- شغفاً عُصابياً غايته إنكار الأزمات البنيوية العميقة، وتلهية الذات ببديل ترفيهي يخفف وطأة الكابوس السياسي الجاثم على روح البلاد طوال عقود طويلة مظلمة.
سيكولوجيا غسل الآثام
وفي مقابل سيكولوجيا الإبهار الجمعي لدى الجمهور، برزت “سيكولوجيا غسل/ تبييض الآثام» Washing away the sins لدى مؤسسات السلطة المتهافتة على محو فشلها المزمن وإنكار فسادها العلني المستوطن. فقد استنفرت هذه المؤسسات -بكافة تشكيلاتها الرسمية والموازية- طاقتها الإعلامية والأمنية إلى الحد الأقصى لإخفاء رثاثة المنظومة الحاكمة وقسوتها في قتل واستهداف آلاف المحتجين منذ انتفاضة البصرة 2018 ومروراً بثورة تشرين 2019. فارتدت بزة “الحرص” المتفاني على الرياضة والفن والعمران ومدنية البلاد، مستغلة اللطف الإنساني للبصريين ونزعة عموم الجمهور لإعلاء هويته الوطنية الجامعة، ما دام كل ذلك يحدث في إطار مهرجان رياضي لا يهددها. وتحولت كرة القدم -وملحقاتها من غناء ورقص- بين ليلة وضحاها من مُنكر يجب النهي عنه إلى معروف يجب الأمر به. وصار الزعماء الاوليغارشيون وأتباعهم يتسابقون لحضور المباريات وتصدر المشهد الرياضي والإعلامي بأسلوب فج ومصطنع، خلف زجاج المقاعد المخصصة لـ”كبار” الشخصيات.
وهكذا “أفلحت” المنظومة في توظيف الحدث وتجييره جزئياً لصالح إعادة انتاج شرعيتها السياسية ومحاولة بناء سردية جديدة مضادة عن “مقبوليتها” -الآنية على الأقل- في المخيال السياسي العام. ومما عزز من مساعيها هذه انخراطُ أعداد مهمة من المثقفين والناشطين والمدونين وصناع الرأي في إذكاء نزعة شعبوية تبسيطية لتمجيد الحدث وعدّه “معجزة” ستفتح آفاقاً غير محدودة لانطلاق العراق خارج أزماته المتراكمة.
إن ما مارسته المنظومة الحاكمة من تسييس مبيت وقصدي لخليجي 25 أثناء انعقاده وبعد فوز المنتخب العراقي به واستدراجه لزيارة زعماء المنظومة واحداً بعد الآخر على نحو مكوكي متهافت، يعدّ واحداً من الأساليب الناعمة للثورة المضادة المستمرة لكبح التغيير وتعويق آلياته المولودة من رحم الضرورات. فالرياضة هنا لم تكن قيمة غائية حداثوية للارتقاء بعلاقة الجسد بالعقل، بل وسيلة عابرة لممارسة السطو على إنجاز مجتمعي مدني وعزوهِ إلى “جدارة” منظومةٍ ينخرها الفشل والفساد، فضلاً عما قد يحققه الحدث الرياضي من تنفيس لانفعالات الجمهور المحبط وتحويلها إلى قنوات هامشية لا تمس بنيان السلطة. والأمثلة السياسية كثيرة بهذا الشأن، ليس أولها فوز المنتخب البرازيلي بكأس العالم 1970 وقيام الدكتاتور البرازيلي “إميليو ميديسي” آنذاك باستقبال اللاعبين في شرفة القصر الجمهوري وحمله للكأس بنفسه لينسب النصر لنفسه، وليس آخرها ممارسات النظام الصدامي ولجنته الأولمبية سيئة الصيت في السطو على كل إنجازات المجتمع الرياضية خلال أكثر من ثلاثة عقود وتوظيفها في التلهية السياسية والتعمية الاجتماعية وتجييرها حصراً لصالح رأس النظام وإرثه الاستبدادي.
الخلاصة
لقد أفرز خليجي 25 -في بُعده السياسي- نسقاً سيكولوجياً جدلياً احتوى نمطين سلوكيين متناقضين في مضمونهما الوظيفي والأخلاقي، إلا إنهما نشطا متزامنينِ ومتجاورينِ دون أن يلغي أحدهما وجود الآخر.
فعلى الصعيد المجتمعي مارس الجمهور إبهاراً جمعياً لذاته وللعالم -دون أن يخلو من توجهات شعبوية مبتذلة محدودة التأثير- في مناورة احتجاجية ناعمة للترويج لسرديةٍ باهرة تحقق درجة عالية من الدهشة الإيجابية بفضائله التي برزت بتأثير حاضنتها الجاهزة أي بزوغ الهوية الوطنية. وهو في ذلك مارس سلوكاً جمعياً تعويضياً تكيفياً ليكون بديلاً عن انسداد الآفاق السياسية أمامه لتحقيق تلك الهوية على مستوى أيديولوجيا الحكم الغارقة في فساد نظام الطوائف السياسية الزبائني.
وعلى الصعيد السلطوي، مارست المنظومة الحاكمة تبييضاً قصدياً منظماً لآثامها ورثاثتها وفشلها، إذ سعت لتوظيف الإبهار المجتمعي والبزوغ الهوياتي الجمعي لصالح الترويج لسرديةٍ مضادة، أي إظهار “مهارتها” التنظيمية و”شرعيتها” السياسية القائمة أصلاً على تفتيت الهوية الوطنية وتكريس الحرمان والفاقة والبؤس. وهي في ذلك استثمرت براغماتياً ما هو ليس من جنسها لتعزيز ما هو من جنسها.
إلا أن تكنيك “غسل الآثام” في الوقت الذي قد يحقق فيه “نجاحات” آنية مؤقتة على صعيد العلاقة الشكلية بين السلطة وفئات من الجمهور، فإنه ينطوي في تفاعلاته الدينامية الداخلية على تضخيم أوهام اعتلالية أخرى لدى السلطة -جذرها خداع الذات- تجعلها في حالة خدر سياسي إنكاري حيال تنامي عوامل التغيير الهادمة لها، كوهم التحكم بالأحداث، ووهم الحصانة من الزوال، ووهم الجدارة بالحكم.
فإذا كان خليجي 25 قد جرى تسييسه لتحويل الأنظار -ولو مؤقتاً- من المعضلات الأساسية المرتبطة بتآكل شرعية النظام السياسي نحو “مكاسب” هامشية ذات طابع إيهامي لكسب وقت فيزيائي جديد لاستمرارية الحكم، فإن ذلك يعني جدلياً أن ثمة زمناً اجتماعياً مأزوماً يتراكم في الضفة الأخرى، ما برح يتخثر ثورياً في عقول الناس وإرادتهم وخياراتهم القادمة.