حددت مقولة كارل ماركس، من أن أية أمة تضطهد أمة أخرى لا يمكن أن تكون حرّة، والموقف اللينيني في الإعتراف العملي بحق الشعوب المضطهدة في تقرير المصير، موقف الشيوعيين من المسألة القومية. وقد إعتمدت الحركة الشيوعية هذا الأساس الفكري، حين ساهمت ودعمت نضال الشعوب من أجل تحررها من الإستعمار، وحين إتخذت من حركات التحرر الوطني حليفاً، وحين بنت تجاربها في مجتمعات متعددة أثنيا على أساس من الوحدة الطوعية، دون أن تغفل النضال لإحباط محاولات الرأسماليين، التي سعت لوضع القومية حجر عثرة على طريق وحدة عمال العالم، كما حدث في الماضي ويحدث اليوم، وإيهامهم بأن ما يجمعهم مع مستغِليهم في إطار أمتهم، أهم مما يجمعهم مع اخوتهم المستغَلين من شعوب أخرى. ورغم إدراكهم بان هناك فرقاً كبيراً بين قومية ودين المضطهَدين وقومية ودين المضطهِدين، فقد ظل الشيوعيون مدافعين أشداء عن المساواة الكاملة بين الأمم، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تقرير الأمم المستعبدة، لمصيرها بحرية كاملة.
نظرة تاريخية
ولم يكن الوصول الى هذا التوجه سهلاً وخالياً من صراعات فكرية، بدت حادة جداً في أحايين كثيرة، والتي كان من أهمها ماحدث قبيل الحرب العالمية الأولى، حين برزت ثلاثة أتجاهات في اليسار الأممي حول حق تقرير المصير، تمثل الأول، والذي قاده الألمانيان فريدريك إيبرت و فيليب شايدمان، في الدعوة للتحالف مع البرجوازية دفاعاً عن الأمة، فيما رفض الثاني، الذي كانت روزا لوكسمبورغ من أبرز قادته، أية مشاركة في الحرب لأن الصراع الوحيد والأساسي هو صراع ضد البرجوازية لانتزاع السلطة والمُلكية من يدها. وقد تبنى لينين الإتجاه الثالث، داعياً الى النضال لضمان حق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها في مجرى تحويل الحرب الإمبريالية الى ثورة ضد الرأسمالية.
وشهد الصراع الفكري محطة أخرى، حين جرى الحوار حول قيام الإشتراكية في بلد متعدد القوميات، فكان هناك من لم يجد معنى لمبدأ حق تقرير المصير في المجتمع الإشتراكي، طالما ستقضي الاشتراكية على كل أنواع القهر القومي، عبر قضائها على الإستغلال الطبقي الذي يّولد ذلك القهر، بينما وجد أخرون بأن إجبار أمة ما على العيش داخل حدود أمة أخرى يّعد شكلاً من اشكال خيانة الإشتراكية. و كان هناك فريق ثالث رأى بأن المجتمع الاشتراكي، وإن كان غير قادر على أن يحتوي كل الأمم بداخله عن طريق القوة، فإنه سرعان ما يخلق الشرط الضروري لالغاء القهر القومي، وبناء المجمتع الإنتقالي نحو ملكوت الحرية.
وتعتبر روزا ليكسمبورغ، ابرز الثوريين الذين تبنّوا موقفاً متميزاً فيما يتعلق بحق تقرير المصير، لأنها رأت بأن دعم حق كل أمة في الانفصال يعني في الواقع دعم برجوازيتها، فلا وجود لأمة متجانسة، إذ لكل طبقة في الأمة مصالح تتضارب ومصالح الطبقات الأخرى. الا أن موقف روزا هذا لم يتعارض مع إيمانها بالمبدأ الماركسي في حق الأمم بتقرير مصيرها، حين وصفت الإضطهاد القومي بأنه أكثر أنواع الاضطهاد بربرية، لكنها إختلفت في صحة ممارسة هذا الحق داخل الدول الرأسمالية القائمة، أي في عصر الإمبريالية، حيث ستتحول الدول الصغيرة الناشئة الى قطع شطرنج بأيدي الأمبرياليين، لاسيما حين تبقى هذه الدول تابعة إقتصاديا على الأقل. وينبغي هنا الإشارة الى أن تعامل روزا مع القضية، خضع في البداية لإيمانها بأن الأمة ظاهرة ثقافية بشكل أساسي، ولهذا يمكن أن يُلغى الاضطهاد القومي عبر التطور الثقافي الحر. كما لم تجد روزا أية امكانيات ثورية في حركات التحرر الوطني ولم تستطع الكشف عن ما كان يعتري هذه الحركات من تناقضات داخلية بسبب طبيعتها المزدوجة.
وبرز لينين بشكل واضح في هذا الصراع، حيث تعّد المسألة القومية، واحدة من أبرز معالم تطويره للماركسية، إذ قدم في إطارها إستراتيجية ثورية واضحة، ومتقاطعة ربما مع أبرز ماركسيّ عصره، تقوم على تشخيص العلاقة الجدلية بين الأممية وبين الديمقراطية وحق تقرير المصير. وجعل من تبني هذا الحق المدخل الوحيد للتعاون ثم الوحدة الطوعية ثم الإندماج بين الأمم، لأن هذا التبني هو من سيزيل الريبة والعداء بين العمال من خلفيات أثنية مختلفة، وهو من سيجعل من الشعوب المستعَبدة حليفاً جديداً للبروليتاريا العالمية. وربما أغفل لينين الإشارة الى وجود إستثناءات في هذه الإستراتيجية كبروز تناقضات بينها وبين المصالح العليا للبروليتاريا العالمية، الى جانب عدم إهتمامه بالجوانب الثقافية والتاريخية. ولعل إكتشاف هذا الإغفال هو ما دفعه الى الدعوة لتوزيع الأدوار بين بروليتاريا الأمة المسيطرة، الذين يجب أن يناضلوا ضد شوفينية برجوازيتهم ويتبنوا حق تقرير المصير التام للأمم المستعَبدة، وبين بروليتاريا هذه الأمم، الذين يجب أن لا يتخلوا، وهم يكافحون من أجل حرية أمتهم، عن وحدتهم مع بروليتاريا الأمة التي تضطهدهم. ويعّد من أسطع الأمثلة على ذلك في القرن العشرين، موقف الرفاق العرب في حزب راكاح.
حق تقرير المصير اليوم
لقد حققت الحركة الشيوعية، وبهدي ثورة أكتوبر، نجاحات كبيرة في حل المسألة القومية، وبأشكال مختلفة، جمعها أمران مترابطان ومتداخلان، ضمان حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وصيانة النظام الإشتراكي، الضامن الحقيقي لهذه الحرية. غير أن وقوع سلسلة من الإخطاء المعروفة، وأبرزها غياب التوازن بين هذين الأمرين، أدى الى إنهيار التجارب القائمة، وكشف عن خلل متعدد الإبعاد في تطبيق الحلول اللينينية للمسألة القومية. ومن نافل القول، الإشارة الى أن الإستفادة من أخطاء التجارب السابقة، ورسم سياسات جديدة في هذه المسألة يتطلب قراءة لها في ظل الواقع الراهن، أي في ظل عصر العولمة المتوحشة، وإعادة الإعتبار للأرث النظري للرواد.
فاليوم، إذ تتحكم أسواق الأموال والشركات متعددة الجنسية بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول الوطنية، تتعرض الدول الصغيرة والناشئة الى استغلال متوحش، تفقد بسببه حقها في إدارة إقتصادها الوطني الذي يُلحق بالسوق الرأسمالية المعولمة، كما تفقد دورها السياسي الوطني، عبر وسائل فرض “سلمية” ثم عبر “العقوبات” وأخيراً في التدخل العسكري المباشر، الذي يعيد “المتمردين” الى معسكر المدجّنين، فيما يؤدي قانون التطور المتفاوت والتبعية والتهميش الى فقدان الدولة الوطنية لمعنى وجودها، كمعبر عن حق الأمة في تقرير مصيرها.
ومن جهة مكملة، يدفع التباين بين الإمكانيات المادية والتقنية والعلمية، للدول الكبيرة والدول الصغيرة والناشئة، الى خسارة الأخيرة لثقافتها وخصوصياتها وهويتها الوطنية، لصالح فرض هوية المتعولمين ومفاهيمهم تجاه مختلف القضايا، الأمر الذي يفقدها ما نالته من حرية حين قررت مصيرها ودخلت الصراع منفردة كدولة ناشئة.
ولعل من أبرز الأمثلة الصارخة على فشل الدول الصغيرة في التحرر من الإستعباد، هذا التوسع في دائرة الحروب الإقليمية والمحلية وتدويل السياسات الأمنية، وإعادة نشر القواعد العسكرية وتوقيع اتفاقيات الحماية والوصاية وإشراك الدول الكبرى في ملكية الثروات الوطنية، وما سببه ذلك من شيوع الفوضى الاقتصادية والسياسية والإدارية وتعمق مظاهر الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي والإستقطابات الطائفية والعشائرية والعائلية، وحلولها محل الصراعات الاجتماعية، إضافة الى هيمنة المتعولمين على أغلب وسائل الإتصال وعالم الرقمنة، وعدم إعترافهم بالتنوع الثقافي، والإعلان الوقح عن عدم ملائمة أية ثقافة غير ثقافتهم لعصر الرقمنة، الى الحد الذي يُفقد فيه الخضوع لهيمنتهم، أي معنى لحق تقرير المصير أو التطور الثقافي الحر.
إن أرث الحركة الشيوعية النظري والعملي، والواقع الذي يكافح فيه الشيوعيون ضد العولمة المتوحشة والنزعات العنصرية والشوفينية، يطرح بقوة، مهمة البحث عن إستراتيجية جديدة في المسألة القومية، إستراتيجية مختلفة عن المفهوم التقليدي الذي يقتصر على الإستقلال وإقامة الكيانات السياسية التي لم تعد قادرة على التعبير عن حرية الأمة، إستراتيجية تشكل رافعة مهمة للنضال ضد العولمة وللخلاص من القهر القومي في آن واحد.
طريق الشعب