ثورة 14 تموز 1958 أسئلة حارقة ما زالت تبحث عن إجابات!
بقلم : د. صالح ياسر
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

في هذا العام، 2023، تحل الذكرى الـ 65 لاندلاع ثورة الرابع عشر من تموز 1958 والجدل الذي ثار، خصوصا في السنوات الأخيرة، هنا وهناك، في اللقاءات العامة، كما في المجالس والأحاديث الخاصة ما زالت نيرانه مشتعلة ولم ولن تنطفئ. يتمحور هذا الجدل، أساسا، حول موضوعات عديدة من بينها موضوعتا العنف والثورة، التحالفات والقوى المحركة للثورة والقوى المضادة لها، طبيعة تركيبة القيادة العسكرية للثورة ودور الزعيم عبد الكريم قاسم في اندلاع الثورة وفي انتكاسها، التأثيرات الإقليمية والدولية والصراعات بين “الاقطاب الكبار”، وأخيرا وليس آخرا ما إذا كان الذي حدث في 14 تموز 1958 انقلابا أم ثورة.

ويبدو من صياغة بعض التساؤلات ان ثمة شيء من الغموض، أو سوء الفهم، ربما، يرتبط ببعض جوانب المسألة. فالثورة، وهي، كما معروف، عملية موضوعية، لها قوانينها ومستلزماتها وشروطها ومحتواها وتجلياته، وتتحقق عندما تنضج شروطها، تطرح هنا مكانها فعل ارادوي، تجتهد حفنة أشخاص بضرورته، وتنفذه دون حساب لمصالح المجتمع وإرادته.

ويتعارض هذا الطرح مع واقع ثورة 14 تموز ذاتها، على الرغم من أنها بدأت بتحرك عسكري، يذكر بالأعمال الانقلابية التقليدية المعروفة. ذلك ان هذا التحرك كان بمثابة الفتيل الذي أطلق النهوض الثوري لملايين العراقيين، الذين كانوا متحفزين ينتظرون التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي. لهذا يمكن القول إن ما حدث في 14 تموز 1958 لم يكن انقلابا عسكريا تقليديا، بل كان فاتحة تحول اجتماعي عميق لو لم يتم قطعه من قبل قوى الردة، يحمل السمات الأساسية للثورة الأصيلة، وهو بهذه الصفة عملية موضوعية، لم يكن من مفر من وقوعها، ولو لم يكن “الضباط الأحرار “ أطلقوها يومذاك، لأنجز غيرهم هذه المهمة. لقد كان الالتفاف الجماهيري غير المحدود حول القيادة العسكرية، هو ما أضفى على حركتها طابع الفعل الشعبي الثوري، لا العمل الانقلابي المعزول عن الجماهير.

وعند تناول ما حدث في الرابع عشر من تموز 1958، علينا أن نتجنب ذئب التفاصيل، وغواية “السرديات”، وطوفان الأحداث، فكل ذلك كفيل بإغراقنا، وبحصارنا في أنفاق مسدودة، متناقضة، متضادة. فالغرق في التفاصيل قد يكون مغريا، لكنه في نفس الوقت قد يمنع من تكوين نظرة شاملة للحدث والمآل الذي اتخذه، ذلك لأنه يمكن أن ينقضي العمر كله ونحن نناقش التفاصيل، دون أن نصل إلى أي نتيجة، أو تصور كلّي معلل لما جرى!

لكن هذا لا يعنى بالمقابل الاندفاع نحو الاختزال المخل، الذي قد لا ييسر لنا الوصول إلى تصور متوازن، بل إلى إصدار أحكام “قاطعة”، تكون في أغلب الأحيان غير دقيقة.

سوف نترك ذلك كله، لنسأل سؤالا واحدا:

هل كانت ثورة 14 تموز 1958 ضرورية في تلك اللحظة التاريخية التي وقعت فيها؟

نعم، ذلك هو السؤال الاستراتيجي الذي ينبغي الدخول فيه في العمق.

لا بد، إذن، من محاكمة هذه الثورة من خلال كل ما نسب إليها من انتصارات وانكسارات، لا بد من محاسبتها عما تحقق وما لم يتحقق ولماذا؟ لا بد من تحليل الظروف الموضوعية والذاتية، المحلية والإقليمية والدولية التي أدت الى اندلاع هذا الحريق الثوري في الرابع عشر من تموز ولماذا اتخذ هذه الوجهة دون غيرها؟ إنها أسئلة حارقة، وتحتاج الى مقاربات مركبة وليس اختزالية بسيطة، تساعد في  في الكشف عن بعض جوانب هذا الحدث الكبير الذي نحتفل بذكراه الخامسة والستين.

وبالمقابل، كما هو الأمر بالنسبة لقانون الثورات الاجتماعية لم تواصل ثورة تموز صعودها، بل انتكست في لحظة حاسمة من لحظات تطورها لجملة أسباب وذلك في الثامن من شباط المشؤوم عام 1963 الذي حدّد مسارا جديدا للصراع اتخذ طابعا دمويا وقيامات وحروب داخلية وخارجية لا تنتهي توجت بانهيار النظام الدكتاتوري واحتلال العراق. ولهذا فإن المطلوب ليس التباكي على ما حدث من انتكاسة، بل مواجهة النفس، بشجاعة وجهر، بالأسئلة المكتومة في الصدور. نعم، ثمة عشرات من الأسئلة وعلامات الاستفهام، التي تملي مسؤولية الاجتهاد في فهمها وطرحها طرحا صحيحا، من أجل بلورة إجابات عنها، لكي يمكن فهم جذور الانتكاسة وأسبابها الفعلية.

ومن بين تلك الأسئلة: هل ما حدث في 14 تموز كان انقلابا أم ثورة؟ ما هو دور عبد الكريم قاسم في انجاح الثورة وأيضا في المآل المأساوي لها؟ ما هو البعد الديمقراطي في الثورة ولماذا اخفقت في بناء نظام سياسي ديمقراطي؟ ما هي الائتلافات الاجتماعية- السياسية التي تبلورت قبل ثورة 14 تموز وبعد اندلاعها؟ وما هو المشترك والمختلف في تلك الائتلافات قبل وبعد الثورة؟ ما هي اهداف ثورة تموز وما الذي تحقق منها ومن لم يتحقق ولماذا؟ ما هي العوامل والقوى الخارجية، الداعمة للثورة والمناهضة لها؟ النشاط الامبريالي ودوره في عرقلة الثورة والوصول الى غاياتها المنشودة في تحرير العراق من الهيمنة السياسية والاقتصادية الأجنبية؟ الادوار المتباينة للأحزاب السياسية في دعم الثورة والصراعات التي نشبت بين تلك الاحزاب وجذورها الاجتماعية - الطبقية؟ الاصلاح الزراعي والمعركة السياسية والفكرية التي دارت حوله بين خطين متناقضين: خط يريد تطبيق اصلاح زراعي جذري (اجتثاث القاعدة المادية للإقطاع في الريف)، وخط يريد تطبيق اصلاح زراعي يقوم على تحديد سقف الملكية وتعويض مالكي الاراضي من الاقطاعيين؟ وبعبارة أكثر تبسيطاً يمكن القول إن جوهر الصراع، في حقل المسألة الزراعية بعد ثورة 14 تموز 1958، كان يدور حول سؤال حاسم قوامه: أي إصلاح زراعي كان يحتاجه الريف العراقي آنذاك؟

هذه اسئلة، وغيرها الكثير، لم يعد السكوت عنها ممكنا.. فالسكوت هو هروب لأجيال عن مواجهة الحقيقة. وليس هناك من أمل في الوصول الى اجابات مشرعة وصحيحة للأسئلة المرتبطة بتموز الخالد بغير التعامل معها، بجسارة وشفافية، بطريقة التفكير النقدي وبصوت مرتفع بهدف بلورة الدروس للاستفادة منها في الظرف الحاضر حيث المهمات الوطنية – الديمقراطية التي طرحتها ثورة تموز ما زالت تواجهها البلاد حتى اليوم، رغم اختلاف الظروف واختلاف موازين القوى.

من هنا مهمة الجيل الذي عاصر ثورة 14 تموز باندلاعها وتطورها وصخب معادلاتها المحلية والإقليمية والدولية ومآلها المعروف. إنها تتعلق بتوضيح ما حدث وكيف حدث ولماذا حدث الذي حدث/المأساة، وهي أسئلة لم يعد السكوت عنها أو التعتيم عليها – تحت مختلف الذرائع - ممكنا، فالسكوت هو هروب لجيل من مواجهة الحقيقة وترحيل الامر لأجيال قادمة تعيش في عوالم وبيئات جديدة.

وها نحن في السنة الثالثة من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فإنه يمكن القول انه ليس هناك من أمل في الوصول الى إجابات مشروعة وصحيحة للأسئلة المرتبطة بثورة تموز بغير التعامل معها، بروح نقدية بعيدا عن المجاملات.

ليس لثورة 14 تموز 1958 كليشة ثابتة ونهائية، نستطيع ان نحدد حقيقتها ودلالاتها، إنها تحكي ممارسات ومواجهات ومعارك وتعرجات وانعطافات وانقطاع وانفصال، وعمليات فرز، في إطار ملابسات موضوعية وذاتية مختلفة. بتعبير آخر، ان حقيقة ثورة 14 تموز ودلالاتها لا سبيل الى تحديدها إلا عبر حركتها التاريخية العامة البالغة التعقيد بما حملته من تناقضات عاصفة وتضارب مصالح محلية وإقليمية ودولية وآفاق وآمال ومحاولات إفشال وتشويه مضمونها الاجتماعي - الطبقي. ولعل هذا هو مصدر الصعوبة في تقيمها من ناحية، ومصدر السهولة من ناحية أخرى، في محاولة تزييف حقيقتها ومهاجمتها.

ان الاحتفاء بهذه الذكرى بما يليق بها يتطلب طرح قضية ثورة 14 تموز 1958 الى النقاش العام مرة أخرى، بهدف التحريض على تقليب الأوراق من جديد وتقديم قراءات تتجاوز الكليشات الجاهزة، قراءات تغوص في عمق الإشكاليات الكبرى التي جعلت حدوث ثورة الرابع عشر من تموز ممكنا وانتكاسها وانحرافها عن الطريق الصحيح ممكنا أيضا لجملة عوامل ومعادلات واستقطابات محلية وإقليمية ودولية. ومن المؤكد ان هذا النقاش سيساهم في الإبقاء على الذاكرة متوقدة، بما يسمح بتجاوز حالات الانكسار والتراجع وعبور الأزمة، ومواصلة العطاء، خصوصا وبلادنا تمر الآن في لحظة تاريخية بالغة التعقيد والصعوبة، لحظة مفتوحة على مختلف الاحتمالات.

إن دروس ثورة 14 تموز 1958 غزيرة سواء في اندلاعها وتطورها وأيضا في انتكاسها. ومن بين كل دروس الثورة ثمة درس مهم هو ان هذه الثورة انتصرت لأنها اعتمدت على وحدة القوى الوطنية والديمقراطية التي ناهضت الحكم الملكي وناصرت الثورة وساهمت في نهوضها.. في حين كان من بين عوامل انتكاستها هو الصراعات التي نشبت بين هذه القوى حيث عجز العديد منها عن فهم طبيعة المرحلة التي دشنتها الثورة وترتيبها – أي تلك القوى- ترتيبا خاطئا للتناقضات بتغليب الثانوي منها على الرئيسي. علما ان النزعات الدكتاتورية لبعض قادة الثورة وعدم رهانهم على الجماهير الشعبية وتردداتهم كان من بين العوامل التي ادت الى في انتكاسة الثورة وتتويج ذلك بثورة الردة الفاشية في الثامن من شباط 1963.

طريق الشعب

  كتب بتأريخ :  السبت 15-07-2023     عدد القراء :  816       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced