مرت الذكرى ال 65 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار في الجيش العراقي وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958. وأسست للحقبة الجمهورية.ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا.
قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 65 عاما بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي, الى جانب طبيعة الصراع الذي كان سائدا انذاك بين المعسكريين الغربي والشرقي وانعكاس مصالحمهما المتناقضة على الأوضاع في المنطقة وعلى الوضع في العراق بشكل خاص, حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز, الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير ". الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي, فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.
وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية. قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية, وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل المنطقي للحفاظ على الثورة وزخمها, وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا, فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه.
ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .
ولتكن ذكرى الثورة درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار, الى جانب الأستلهام من دروس الثورة في عمرها القصير وانجازاتها الكبيرة في ميدان الخدمات العامة, كالصحة والتعليم والكهرباء, والتخطيط لبناء بنية تحتية اقتصادية متينة والى جانب التشريعات في ميدان حقوق الأنسان والمرأة بشكل خاص والأحوال المدنية العامة.