رفع المتظاهرون في تشيلي في احتجاجات تشرين الأول 2019 لافتة تقول: "لقد ولدت الليبرالية الجديدة في تشيلي وستدفن فيها". وفي الواقع: ترتبط الليبرالية الجديدة ارتباطًا مباشرًا بالانقلاب العسكري ضد حكومة الوحدة الشعبية بزعامة سلفادور اليندي في 11 أيلول 1973.
لقد كان بينوشيه، كلب حراسة لمجموعة "صبية شيكاغو" الاقتصادية الليبرالية المتطرفة. ومن دون انقلابيي تشيلي، ودعم واشنطن المفتوح لهم، لم يكن بإمكانهم فرض التجريب الميداني لليبرالية الجديدة في تشيلي. لقد كانت نتائج هذه الحرب الطبقية بمثابة خارطة طريق لرونالد ريغان ومارغريت تاتشر لاحقا، ومنذ عام 1990، لدول أوروبا الشرقية أيضا.
خطاب اليندي الأخير
في حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 11 أيلول، ألقى الرئيس الليندي خطابه الأخير عبر الراديو. كانت طائرات الانقلابيين قد قصفت معظم محطات الإذاعة الموالية للحكومة ولم يبث سوى عدد قليل منها كلمات الليندي الأخيرة للشعب التشيلي، ومما جاء فيه: "أيها المواطنون، ستكون هذه، على الأرجح، فرصتي الأخيرة لمخاطبتكم" واضاف "لن أستقيل! وفي هذه اللحظة الحرجة ذات الأهمية التاريخية، سأدفع حياتي ثمنا لولائي للشعب. وأضاف مخاطبا الانقلابيين" لا يمكنكم بواسطة الجريمة ولا بواسطة العنف إيقاف العمليات الاجتماعية. التاريخ ملك لنا، والشعوب هي التي تصنعه. لقد خلق رأس المال الأجنبي والإمبريالية المتحالفة مع الرجعية مناخًا، جعل القوات المسلحة تتنكر لتقاليدها. الآن يجلس نفس الأشخاص الذين قُتلوا رفاقنا في منازلهم في انتظار عودة قوة الثروة والامتيازات إليهم. في هذه اللحظة المظلمة والمريرة عندما تسود الخيانة، يجب أن تعرفوا، أنه عاجلاً أم آجلاً، وقريباً جداً، ستُفتح مرة أخرى آفاقا أرحب عندما يسعى اناس أحرار لبناء مجتمع أفضل".
ملفات سرية
قبل أربع سنوات تم رفع السرية عن ملفات مستعمرة كولونيا ديغنيدا الألمانية النازية في تشيلي، التي تعد جزء(جزءا) من الأرشيف الوطني التشيلي. ولأول مرة أصبح ممكنا الاطلاع على آلاف الصفحات والمجلدات تعود الى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تحتوي مراسلات وفواتير وسجلات الهاتف، وتفاصيل عن الحياة الداخلية للمنظمة السرية.
عرض برنامج "فاكت" (الحقيقة) في قناة ار ام دي ار الألمانية في 5 أيلول 2023، نتائج التقييم. منذ عام 1970، جرى توريد الأسلحة، بالطرق الاعتيادية، وشملت: مسدسات، وبنادق نصف آلية، ومخازن ذخيرة، وكذلك أسلحة ثقيلة. ويمكن العثور في الملفات على دفعة واحدة فقط، بلغت قيمتها أكثر من 126 ألف مارك ألماني. وارسلت الأسلحة من شركة "سيغفريد بيترز إلكترونيك كريفيلد". وتمت عملية التسليم في "كولونيا ديغنيداد". المستعمرة النازية التي تقع على بعد 400 كيلومتر جنوب العاصمة سانتياغو دي تشيلي، والتي أسسها عام 1961 النازي الألماني والمعادي للشيوعية بول شيفر. "مستعمرة" تضم 300 من أتباعه، حيث ساد العمل القسري والاعتداء الجسدي والجنسي فيها.
منطلق للثورة المضادة
وفي عام 1970، بدأت المستعمرة بشراء الأسلحة من المانيا الغربية. يقول أستاذ العلوم السياسية يان شتله، الذي بحث في جرائم المستعمرة لسنوات: "غالبًا ما تكون مخفية في شكل شحنات طبية خيرية"،. ويضيف، "تم إرسال مدافع رشاشة وأسلحة أخرى إلى المستعمرة في أسطوانات أوكسجين مخصصة ا لمستشفى المستعمرة" بالإضافة الى ذلك تم تصنيع الأسلحة هناك.
منذ عام 1996، تولى لويس هنريكيز سيغيل التحقيق في ملف „كولونيا ديغنيداد". لقد اكتشف فريقه مخبأين ضخمين للأسلحة في الموقع. يقول سيغيل: "وفق مستوطني كولونيا، بدأ تصنيع الأسلحة بالضبط عندما تولت حكومة سلفادور الليندي السلطة". و "لقد تم تنظيم المقاومة المسلحة خصيصًا ضد حكومته ".
وتوضح رسالة داخلية من "كولونيا ديغنيداد" تعود إلى عام 1970 الغرض الذي ستستخدم فيه الأسلحة: التحضير للانقلاب. وجاء في الرسالة حرفيا: " من الممكن تمامًا فقدان الكثير من الدماء الحمراء".
لكن هل تمت هذه الاستعدادات بمشاركة جهاز المخابرات الألمانية الغربية؟ لا يزال السؤال الذي طرحه مقدم البرنامج على الجهاز دون إجابة. يقول المحقق السابق سيغيل: "لقد سمحوا بحدوث هذه الصفقات، ولم يتدخلوا". "من هذا يمكننا أن نستنتج أن عمليات تسليم الأسلحة وتصنيع الأسلحة كانت بالكامل في مصلحة جهاز المخابرات الفيدرالي".
لقد اكد سيغيل أن غيرهارد ميرتينز قام أيضًا بتسليم أسلحة إلى تشيلي. كان ميرتينز، أحد رجال قوات اس اس النازية، وظل، بعد الحرب العالمية الثانية، متمسكا بانتمائه. ومنذ عام 1956 عمل في جهاز المخابرات الألمانية الغربية، وأصبح أحد أكبر تجار الأسلحة في العالم. وفي توضيح امام مكتب المدعي العام في بون عام 1989، ذكر ميرتينز أنه قبل الانقلاب في تشيلي، طلبت منه المخابرات الألمانية الغربية إقامة صلة مع مستعمرة كولونيا ديغنيداد.
ويقول يان ستيهل، الذي يعمل في مركز أبحاث تشيلي وأمريكا اللاتينية التابع لجامعة برلين الحرة: "شهد رئيس الاستخبارات التشيلي مانويل كونتريراس بأن ميرتينز كان صديقًا عظيمًا للديكتاتورية التشيلية، وأنه تم شراء الأسلحة بمساعدته". "وهذا يعني من المؤكد أن غيرهارد ميرتينز كان على علاقة وثيقة بالمستعمرة، وشراء الأسلحة، وترتيب الصفقات تم من خلالها.
ويقول صامويل فوينزاليدا، الذي كان عميلاً لجهاز المخابرات العسكرية التشيلية بقيادة أوغستو بينوشيه، قبل ان يستلم السلطة، تم الاعداد للانقلاب بأسلحة "كولونيا ديغنيداد". ويضيف: "كان لدي اتصال مع عملاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي ووكالة المخابرات المركزية الامريكية الذين جاؤوا لاستفسار بشأن سجناء كولونيا السابقين. لقد أخبروني أن كولونيا دعمت رجال بينوشيه قبل الانقلاب وبعده". وكان معروفًا أيضًا أن العديد من الضباط الألمان كانوا موجودين في المستعمرة.
أهمية كشف الحقائق
عضو كتلة حزب اليسار الألماني في البرلمان الاتحادي، ومديرها التنفيذي الأول يان كورته، أشار الى: "يجب على الحكومة الفيدرالية أن تغتنم الفرصة وتكشف الحقيقة أخيرًا. يجب أن تطرح جميع الملفات السرية التي تم الاحتفاظ بها سابقًا على الطاولة الآن. وبعد مرور 50 عامًا على الانقلاب، يجب توضيح حجم الدماء التي لطخت بها الحكومات الفيدرالية آنذاك وجهاز المخابرات الفيدرالية ايديها، لأن الحكومة الفيدرالية لم تكن تعلم بالانقلاب الوشيك في وقت مبكر وفشلت في تحذير اللنيدي فقط، بل كانت على ما يبدو منخرطة في الإعداد له طيلة سنوات. وأمل أن تستغل الحكومة الفيدرالية ذكرى الانقلاب، كفرصة للاعتذار رسميًا للحكومة التشيلية، التي تمضي الآن قدمًا في إنشاء نصب تذكاري ومركز للتوثيق".
يقول معلق التلفزيون الألماني: " من الواضح أن شبكة نازية ألمانية من أفراد قوات اس اس و اس أي، والغستابو الهاربين بقيادة مجرم الحرب، والقائد السابق في قوات اس اس النازية، والمطارد بسبب جرائم قتل جماعية فالتر راف"، قد لعبت دورًا مهمًا في الانقلاب، الذي تم تنفيذه إلى حد كبير بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الامريكية، وأعقبته واحدة من أكثر الدكتاتوريات رمزية في التاريخ المعاصر. لقد تم تجنيد راف من قبل المخابرات الألمانية في عام 1958 من أجل "منع انتشار الشيوعية في شبه القارة الأمريكية " وفي هذا السياق لعب دورا رئيسيا في إنشاء جهاز الأمن والقمع التشيلي الذي قاد الانقلاب فيما بعد.
بشكل عام تمتعت المستعمرة النازية بأهمية فائقة، وتمتع سكانها، بقيادة شيفر، بعلاقات وثيقة بنظام بينوشيه وجهاز مخابراته. لقد ادار شيفر المستعمرة دون ازعاج يذكر، بفضل تساهل وزارة الخارجية الألمانية، التي قيل بسذاجة، ان موظفيها غضوا النظر، ولم يفعلوا، الا القليل، لحماية مواطنيهم. لم تكن المخابرات الألمانية على علم، منذ عام 1966، بـ "الأساليب الشبيهة بمعسكرات الاعتقال النازية" فقط، بل كانت على علم أيضا بشحنات الأسلحة السرية التي تدفقت على المستعمرة
*- نشرت لأول مرة في جريدة المدى في 14 أيلول 2023