طيلة نصف قرن، بما في ذلك تلك السنين العجاف التي ملأت القلب حزناً من التراجع، لم ينقطع احتفائي بأكتوبر، إذ بقيت الثورة قنديلاً في الظلمة، تنير المسار لمن يحملون للبشر العدل والنور والخبز، وتعويذة ضد اليأس، وحجراً للحكمة يقينا النبوءات الزائفة ويمنحنا إرادة الحرية والثبات عند الشدائد. وتطورت احتفالاتنا لتصبح ملتقيات للمعرفة ومشاغل للتفكير في أسئلة الواقع وكيفية الإجابة عليها، متخطية، قدر المستطاع، فرض الفكرة الواحدة أو اعتبار التجديد، بدعاً ضالة، أو تبرير الجمود بالركون للحتمية التاريخية.
بتنا نرى أكتوبر تجربة اشتراكية، طُبقت فيها الماركسية وفق الظروف الملموسة لتلك البلاد، وأنقذتها من براثن الفقر والجهل والفوضى والتمييز الطبقي، ونقلتها من واقع مأساوي مات فيه مليونان في الحرب وثلاثة ملايين بسبب الأوبئة وأهدرت فيه ثروة بلغت 115 ترليون روبل، وهيمنت فيه الأمية على 80 في المائة من السكان، إلى دولة عظمى، صناعيا وزراعيا وتقنياً، ونصيرا للحق والعدالة على الأرض. وكان بديهياً أن يُبهر هذا التحول الهائل شعوب الأرض ويكشف لها عن بشاعة الرأسمالية وارتباطها العضوي بالعبودية والبؤس الثقافي وتشويه المعرفة، وأن يلهمها القدرة على الخلاص.
لم نعّد نغض الطرف عن “أخطاء” تلك التجربة، وفي مقدمتها، تحول دكتاتورية البروليتاريا، التي أرادها ماركس السلطة الانتقالية الممثلة للأكثرية والقادرة على نقل البشرية إلى مجتمع الحرية المطلقة، إلى دكتاتورية أقلية، مما كشف لنا عن الارتباط الجدلي بين الحرية والعدالة الاجتماعية، فوجود الأولى قد يجبر الرأسماليين على تخفيف الآثار السلبية لغياب الثانية، لكن غيابها يُجهض حتى ما يتحقق من عدالة، ويفسح في المجال لتسرب العديد من الخطايا والخاطئين إلى صفوف الطليعة.
وعرفنا بأن من اشتراطات النضال، توفر القدرة على التفاعل مع الواقع والإدراك العميق لتناغم العاملين الذاتي والموضوعي. كما تعلمنا أن لا نرى أكتوبر في ضوء مآل التجربة والحكم عليها على أساس ما توفر لنا من رؤى وخبرات متراكمة، بل على أساس الظرف الموضوعي الذي كان سائداً، واستثمره البلاشفة لنقل السلطة من طبقة أُستنفذ دورها التاريخي إلى طبقة تملك المستقبل، وتعبّد الطريق نحو المجتمع اللاطبقي.
لم تخدعنا فرحة الرأسمالية بإنتصارها النهائي وبنهاية ماركس وصراعه الطبقي والتاريخ بشكل عام، ولم تتمكن تلك الادعاءات من حجب ما نراه من تناقضات تناحرية تعصف بالرأسمالية، كتعمق البؤس رغم التطور العلمي الهائل، وكتسليع القيم الروحية وتحويل المبدعين إلى أقنان معاصرين، فيما أرتنا المآسي التي تعيشها المجتمعات المرتدة إلى الرأسمالية، أدلة مهمة على صواب ما بقينا نتمسك به من قيم.
كما تعّزز يقيننا بأن أي فكرة يمكن أن تذوي، إذا لم تقرأ قراءة نقدية متواصلة، وأن مجتمع الحرية والعدالة آت لا محالة، عبر تحقيق النجاحات في النضال ضد اللامساواة ومن أجل توزيع أعدل للثروة، حد بلوغ المملكة الحقيقية للحرية، المجتمع الذي لا ملكية فيه.
طريق الشعب
قبل أكثر من أربعة عقود، وفي صبيحة السابع من تشرين الثاني، هنأني صديقي مصطفى بالعيد وتمنى أن نبلشف فيه الروح. لم تك الأمنية مألوفة، لكنها كانت من سهله الممتنع، نعم لنبلشف الروح ونذكي جذوة العقل ولنجدد أوراقنا في الجمع بين يقين الواثق وقلق المجدّد، كي نعيد لدوحتنا طهارتها المبتغاة، وكل عام وأنتم بخير.