المعضلة الأساسية والكبرى التي تواجهها دولة الاحتلال إسرائيل هي كيفية استعادة العطف الشعبي العالمي المتشظي والمتراجع، وترميم سمعتها بعد احداث غزة.
يبدو أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بدأ بتعديل خططه إزاء مأزق غزة بعد ما أدت إليه همجيته في التطهير العرقي والابادة الجماعية والعزل العنصري والتجويع للمدنيين… الخ، في سقوط سمعة دولة الاحتلال في الوحل وتسببها في تحول نوعي مؤثر في نظرة العالم وشعوبه لها ووسمها بالعنصرية والفاشية بعد أن كانت تحظى بصورة الضحية الدائمة المحاطة بالضواري المعادية للدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.
الأخبار عن سحب الجيش الإسرائيلي لبعض وحداته من شمال غزة، عدّه محللون، مؤشراً على التوجه نحو حل سياسي، لاسيما بعدما أشيع عن ضغوط أميركية على نتنياهو للتريث في عملية الاكتساح، مع استمرار الدعم بمنظومات سلاح مدمرة.
وجهة نظري المتواضعة أن غرض الانسحاب هو افتعال حربٍ أوسع!
الجرح الغائر والكرامة المجروحة لدى نتنياهو من 7 اكتوبر تقول له بالاستمرار بالثأر… ولكن فشل سياسة البطش في تحقيق انتصارات حقيقية (غير الإبادة الجماعية للمدنيين) وخاصة في ملف القضاء على حماس وتحرير الرهائن لديها. ثم انقسامات الداخل الإسرائيلي وصولاً إلى انقلاب الرأي العام العالمي وتململ حلفاؤه من الامريكان والاوربيين من هول أعماله المنافية لكل الأنظمة والقوانين الدولية التي وضعوها بعد الحرب العالمية الثانية، وحرجهم من تساؤلات شعوبهم عن سبب دلالهم المفرط لدولة الاحتلال والتغاضي عن انتهاكاتها لهذه الأنظمة والقوانين وطبقوها بشدة ضد روسيا!
المأزق الأخلاقي الذي تعيشه إسرائيل هو في الحقيقة مأزق كل من يؤيد أفعالها، لذا قد يكونوا قد فكروا جماعياً بمخرج من هذا الوضع العصيب والإمساك بخيط الضوء آخر النفق، بتحويل جبهة القتال إلى منطقة اخرى، فكان قصف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق.
ورغم ما يكتنف قصف القنصلية الايرانية في دمشق من خرق للقوانين الدبلوماسية المقرة عالمياً، لكونه اعتداء صارخا على سيادة دولة اخرى، يعطي الحق لهذه الدولة الرد عسكرياً (وهو عز الطلب وما يتمنونه) فإنه على ما يبدو المخرج الوحيد للخروج من المأزق وتحويل الصراع مع إيران المنبوذة من دول وشعوب الإقليم ودول العالم إلى حرب مفتوحة، واستعادة العطف الشعبي الدولي، بالتالي، مع إسرائيل في مواجهة هذه الدولة المارقة.
ولو حدث الصدام فإنه سيكون فرصة لإسرائيل وامريكا لإنهاء المشروع النووي الايراني وتدمير آلتها العسكرية وتقويض نفوذها وأذرعها بالمنطقة.
لقد فهم نتنياهو ومسانديه اللعبة جيداً، ولن تنفع إيران كل تصريحات قادتها بعدم وجود علاقة بينها وأحداث 7 أكتوبر بغزة… فقد تكفيهم مشاركة ذراعيها، حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن في عمليات المشاغلة العسكرية دليلاً على تورطها… وسواء ما تدعيه صحيحاً او كاذباً، فإن راسها مطلوب بكل الاحوال.
التريث الإيراني يضع حكامها في " Dilemma "حرج كبير. احتمالان أيسرهما مرّ، فلا هم راغبون بحرب مدمرة. ولا تستطيع الدولة الاسلامية الإيرانية التنازل عن حقها في الرد على انتهاك سيادتها في القنصلية، على الأقل أدبياً أمام شعبها وأمام شعوب المنطقة وهي التي صدعت بتحرير القدس منذ قيامها عام 1979 وأسست جيشاً خاصاً لهذا الغرض.
إطلاق العنان لحرب شاملة لن يكون أفضل الحلول!
فإشعال أتون حرب في المنطقة سوف لن يعود بفائدة على اسرائيل في رفع أسهمها عالمياً بالحرب، فما تهدم من سمعتها لا يمكن ترميمه، ولأنها ليست المتضرر الأكبر من تدخلات إيران وأذرعها، بل شعوب المنطقة، فلم يلحقها سوى طراطيش بعض التصريحات النارية وادعاءات الاستعداد للحرب. لذا فإن محاربتها لن يأت بمكسب إن لم يؤد إلى محق دولة الكيان نفسها، رغم وقوف الامريكان بظهرها، بسبب الفرق في المساحة الجغرافية لكل من البلدين وتعدد الجبهات، ولأن أسباب التشبث بالأرض لدى الاسرائيليين أضعف مما هي لدى الإيرانيين، الذين ليس من أرض تأويهم غير أرض بلادهم حتى لو دمرت، بينما الإسرائيليون سوف لن يتمسكوا بالبقاء في مساحة أرض صغيرة مدمرة، وبديل عودتهم إلى بلدانهم الأصلية متوفر.
أورد أحد المحللين السياسيين على قناة Sky News عربية بأن الإيرانيين قدموا عرضاً للأمريكان فحواه تنازل إيران عن الرد مقابل ايقاف الهجوم على غزة ولكنه رُفض.
ربما فهم الامريكان مدى الفائدة التي كانت ستجنيها إيران من قبول هذا العرض. فهي ستتلافى تدمير بلادها ومفاعلاتها النووية وترسانتها الصاروخية من جانب إضافة إلى ظهورها بصورة المنقذ لأهالي غزة من البطش الاسرائيلي من جانبٍ آخر.
الحل الافضل للجانبين وخاصة لإيران للحفاظ على ماء وجهها هو الرد عن طريق أذرعها في المنطقة، فهي تجنبهما خوض غمار حرب مدمرة بأقل الخسائر للجانبين، فحتى لو ردت اسرائيل على تعرضٍ ما بواسطتهم فإن الضحايا لن يكونوا إيرانيين وان ارض الصدام ليست ايرانية، وكلٌ بما أنجزوه فرحون.
السلام الدائم هو ما تسعى إليه شعوب المنطقة بحل القضية الفلسطينية على أساس الدولة الديمقراطية الموحدة التي تجمع العرب واليهود، على غرار وعلى نفس الأسس التي قامت عليها جمهورية جنوب افريقيا.