ذات صباح يوم أحد جميل أخذت أُقلب بعض المواقع الألكترونية , فوقع تحت نظري ما كتبه الدكتور ( قاسم حسين صالح ) في الصفحه الخاصة به على الـفيسبوك , وأعتقد أن الموضوع كان مطروحاً للرأي العام , كان الموضوع مهماً ومحزناً جعلني أسترجع الكثير من المعلومات والأحزان العامة والخاصة حول المرأة العراقية , وهو حول ( إنتحارألأمهات ) , ومن الواضح أن الطرح لم يكن لحالات فردية بل لظاهرة عامة وواضحة في كثير من محافظات العراق , ولقد حلل الدكتور ( قاسم حسين صالح ) أسباب الإنتحار تحليلاً علمياً رائعاً يليق بمكانته العلمية .
إعتقدت دائماً أن الإنسان نتاج بيئته , ولا يعني هذا أن ما يفعله كل فرد من أخطاء لن تحمله كتفاه , بل يلعب المحيط الخارجي دوراً هاماً في ذلك , فالأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية تلعب دوراً في بناء أو تهديم البناء الداخلي للفرد ، وما يحدث لنساء العراق ولأطفاله ايضاً هو نتيجة الفرز القيمي العشوائي والذي هو ليس بالغربي بل هو تهويم غربي , وليس ايضاً بالشرقي حيث دُفنت بقية القيم الشرقية النبيلة بسبب الصهر الإجتماعي والإقتصادي . وإذا تساءلنا لم كل هذا ؟ فالجواب يكون لأنه لم يعد لدينا أي قاعدة مادية , ولا يعتبر النفط قاعدة مادية بل هو خام نافذ , وكما تعلمون إن كل قاعدة مادية تفرز قيمها على المدى البعيد . في الوقت الذي كان لدينا أُطر شرقية وصناعات شرقية بدائية لكنها ماهرة وكان كل ما تحويه حياة العراقيين هو سهل وناعم , وكان الغني مكتفياً بما لديه والفقير ساعيا. لتحسين معيشته, وكانت المتطلبات سهلة والدين سهل ممتنع , والزيجات سهلة والشارع لا تحميه الشرطة بل ( أبناء المحلة ) , ولم يكن وقتها ( حاميها حراميها ) بل كان التراص الروحي والإجتماعي والديني قائماً , كانت وقتها القيم الإجتماعية نبيلة وتنبع من واقع سهل ونقي .
حينما إنتعشت الصناعة الوطنية ( لكنها لم تتقدم ) , جاءت بعدها الحروب ثم الحصار ثم الحروب ثانية , لم يعد لدى العراقيين شيئاً يستندون عليه , فقد إحترق نخيل البصرة كما إحترقت بساتين اللوز والفواكه في شمال الوطن , وأصبح العراقيون يعيشون على أقل من الكفاف وتكسرت القيم مع الجوع والقهر السياسي والإجتماعي , ولم يعد الفرد العراقي قادراً على حماية جسده ولا شرفه , وتقطعت أوصال العلاقة بين أفراد الشارع العراقي , ولقد سمعت الكثير من القصص المحزنة بما فعله ( الأمن العراقي ) بالفتيات العراقيات وهو تأريخ طويل بدأ بالخيم المنصوبة للحرس القومي في الشوارع العراقية , ثم بدأ ايضاً ولم ينته في ( نادي الصيد ) سيء الصيت , حيث كانت تُصطاد فيه النساء ولا فرق بين المتزوجات وغير المتزوجات حيث كُن يُجرجرن قسراً الى مخادع المسؤولين الكبار , فكُسِّرت آنذاك القيم الحديدية للعائلة العراقية , كما فعلت بشاعات الحروب فعلها في كسر مباديء الرحمة والإنسانية في قاموس الفرد العراقي وببساطة ( فاقد الشيء لا يعطيه ) , ثم عصر الجوع الأمهات والأرامل العراقيات فخرج البعض منهن الى الشارع كمتسولات والبعض الآخر ( كشارعيات ) وقد قام البعض منهن بالإنتحار حين تصارعت بقايا القيم القديمة مع المجتمع اللاقيمي , وكان هناك حوادث كثيرة معروفة منها حادثة إنتحار شقيقة إحدى الفنانات بالغاز بعد محاصرتها من قبل بعض المسؤولين لإصطيادها , وكان هذا حلاً أخيراً لدى المرأة العراقية بعد نفاذ جميع الوسائل .
وكانت المرأة العراقية المثقفة واقعة تحت الضغط الإجتماعي والإقتصادي , وأذكر إن إحدى النساء العراقيات اللواتي عملن معي في الجامعات الليبية قالت بأنها قد باعت كل ملابسها وما لديها لتشتري بطاقة الوصول الى ليبيا , وباع الناس بيوتهم وأضطر البعض الى بيع ( شرفه ) بأشكال كثيرة منها أن يكون قاتلاً أو سمساراً ، وأُضطر خريجي الجامعات ولا زالوا الى التسكع في الشوارع طلباً للعمل السهل .
لم يتبدل الحال بعد ذلك حيث كنت في زيارة لبغداد قبل سنوات وذهبت لرؤية إحدى الصديقات في أحد المراكز العلمية , كانت تشغل مركز المدير الإعلامي , فجاءت إليها إمرأة مسنة وهمست في أُذنها شيئاً ثم أخبرتني الصديقة بأنها علمت بأن بعض طالبات الأقسام الداخلية مصابات بالشذوذ الجنسي وتطالب مديرة القسم بتقديمهن الى دائرة الأمن قلت : وماذا ستفعلين ! قالت : أتعلمين ما الذي سيحصل لهن لو أُقدمهن لقمة سائغة لرجال الأمن , قلت لها أعلم ولا حل إلا بالعلاج التربوي والنفسي , أما ما يدور في داخل عوائل الطالبات من مشاكل إجتماعية فدائرة العلاج يجب أن تكون واسعة وهذا يشمل دورة المجتمع بأكمله بالإتجاه الصحيح وتعديل الإتجاهات المشوِهة لروح المرأة وعقلها مع توفير الأهم وهو الكفاية الإجتماعية .
إن المرأة العراقية لم تعد قادرة على مواجهة الواقع لضعفها الجسدي والروحي . قالت لي ذات مرّة إحدى الصديقات المقربات لقد أصبحت ضعيفة بروحي وعقلي وبأمراضي , لقد أصبح نبض القلب عندي ضعيفاً يصل الى ( 52 ) أو أقل وحينما ذهبت الى الطبيب المختص أعطاني علاجاً أسمه ( الفاليوم ) إبتسمت وقلت ومتى كان الفاليوم علاجاً للأمراض القلبية , قالت ولمعلوماتك معظم المدرسات يتناولن هذا العلاج وحتى المصابات بالقرحة المعدية , إبتسمت ثانية وقلت إنه الدواء الشافي !! , قالت وماذا تفعل المرأة الأم حينما تلد طفلاً بعد آخر مشوهاً تشويهاً لا تكاد تستطيع النظر إليه وهي أُمه , وما ذا تعمل إذا جُبرت على الزواج مرات ومرات من أجل المال , وما ذا تعمل إذا كان الرجل يعتقد جازماً بأن وجه المرأة وصوتها وإسمها ( عورة ) ومصافحتها إثم كبير , وإن إستقبلت الضيوف بمفردها فهي آثمة وسيقام عليها الحد او إذا رغبت أو أصرت على الزواج بشخص ما , وتتميز بهذا خاصة المدن ذات المواقع الدينية , ثم إنتهت قائلة أولا أتناول ( الفاليوم ) بعد هذا ؟ , ودعتها حزينة وتذكرت بأنها كانت الأولى في قسم البيانو في ( معهد الفنون الجميلة ) , ولولا العُرف الإجتماعي لكانت عازفة بيانو بارعة في الفرقة السمفونية الوطنية آنذاك .
إن هناك أسباب كثيرة للمجتمع العراقي الحالي لرمي المرأة في أكياس القمامة وبواسطة ذلك يتخلص الكثير من الرجال من نفاياتهم وقهرهم وعطالتهم وقهر الآخرين لهم وينفذ الكثير من تعليمات المتشددين وكأن الآسلام لم يأت إلا للخلاص من المرأة لآنها تحمل إثم الخطيئة الأُولى , لكن هذا أمر مفتعل ومخجل , إذ أنهم لو قرأوا التأريخ الإسلامي لما وجدوا هذه الضِعة للمرأة العربية .
إن نقاط الحصار الإجتماعي هو الذي جعل المرأة معطلة الإرادة والعقل كي تصل الى لحظة الإنتحار , وإن لحظة الإنتحار هي ليست عقلانية ولا منطقية , بل هي حالات مؤقته يتعطل فيها العقل وليست حالات جنونية , ويبدو الفاعل وكأنه مُنوَم مغناطيسياً بسبب السيطرة الفعلية عليه من جوانب عديدة , ولنأخذ مثلاً على ذلك أن بقعة من الجسد إذا ضُربت لفترة طويلة من الوقت فإنها تتخدر أعصابها ولا تعود تشعر بشيء , كذلك الجهاز العصبي فهو يصبح مخدراً ولكي لا يستيقظ من خدره يطلب منه العقل اللاواعي أن يضع النهاية ويخطط لراحته الأبدية حتى لا يعود يشعر بعدها بشيء , وهي بشكل أو بآخر لحظات مرضية لتأكيد الذات , فهو لم يختر الولادة في أُسرة فقيرة أو متشددة أو تتسم بالشراسة , وهي لم تختر زوجها أو الولادات المتتابعة , ولم تختر الأوضاع الصحية لأطفالها المصابين بأنواع السرطانات , فهي على الأقل أو الأكثر من يختار لحظة الموت , ويبدو أنها الإمكانية الوحيدة لتأكيد إرادتها , ولا يعود لدى المنتحرة سوى هذه الورقة والتي ستلعب بها حتى ولو كانت هي الخاسرة . إن المرأة العراقية المُحبطة لو نُقلت الى بيئة أُخرى , بيئة الكفاية الإجتماعية والرفاهية لأصبحت إمرأة مبدعة تنشط في جميع المجالات العلمية والثقافية , وهناك شواهد كثيرة على النساء العراقيات اللواتي خرجن من العراق وهن خائفات مشتتات القوى الجسدية والذهنية ولكن حينما تبنتهن بيئة أُخرى لا تفرض عليهن سلوكاً ما ولا إتجاهاً سياسياً أو إجتماعياً ما وتوفر لهن فرص العمل , ولا تفرض عليهن أُطراً تقليدية في الحياة , وقتها قد أصبح هؤلاء النسوة جزءاً راقياً من العقول العراقية المفكرة والمبدعة والتي يمكن أن تُدوّر عجلة المجتمع العراقي لتبني أُسساً حديثة وتغرز قيماً جديدة تأخذ من الغرب علومه ومن الشرق أصالته وعراقته , لكن هذا لن يحدث إلا إذا عُبِّدت الطرق السياسية والإقتصادية والإجتماعية ما بين الأجناس والأديان , وإلا إذا تحررت الدائرة الإقتصادية من قيود النفط وبدون هذا يبقى الشعب عاطلاً عطالة حقيقية ومقنعة , ويبقى الآلاف من الشباب يتسكعون ما بين المقاهي وتتلقفهم المنظمات الإرهابية لأجل قتل الفكر العراقي الوقاد .