تخيل أنك تعيش في بلد يتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا، وعاصمته في مقدمة عواصم البلدان غير الصالحة للعيش فيها، وينشغل أبناؤه وبعض "نخبه الثقافية" بشأن مطالب لإزالة تمثال أبو جعفر المنصور من العاصمة بغداد، والسبب أن المرويات التاريخية الشيعية تتهم الخليفة العباسي المنصور بقتل الإمام جعفر الصادق. ومع إحياء ذكرى استشهاد الإمام الصادق تنتشر عناصر الأمن حول الساحة التي يتوسطها تمثال المنصور، ويتحول هذا الموضوع إلى "ترند" في وسائل التواصل الاجتماعي.
لم ننته من "ترند" إزالة تمثال أبو جعفر المنصور، حتى ظهر لنا نائب في البرلمان العراقي مجاهرا بلعن (الأربعة الأوائل من الخلفاء الراشدين)، ليتحول هذا الموضوع إلى "ترند طائفي" بين من يطالب بمحاسبته قانونيا، ومن يدافع عنه تحت مبررات طائفية.
نائب آخر، يطالب بإدراج "حقائق معركة صفين وفرار عمرو بن العاص عاريا" ضمن المناهج الدراسية، ويبدو أن السيد النائب يعتقد أن أجيال العراقيين القادمة يمكن أن تنافس الأمم المتقدمة في التنمية والتطور، إذا تربوا على قراءة هذه الواقعة التاريخية في المناهج الدراسية.
"الترند" الآخر هو الدعوة إلى اعتبار "عيد الغدير" عطلة رسمية، بعد أن دعا السيد مقتدى الصدر البرلمان إلى إقرارها. ورغم أنها تدخل ضمن دائرة التنافس السياسي الشيعي- الشيعي، فإن دلالاتها السياسية تشير إلى التوجه نحو ترسيخ مناسبات دينية للطائفة الشيعية. حتى وإن كانت بالأساس تأتي ضمن التنافس السياسي بين الإطار التنسيقي والصدر للاستحواذ على التمثيل السياسي الشيعي، وتأتي ضمن توجهات الصدر الأخيرة لتأكيد الهوية السياسية الشيعية لتياره قبالة قوى الإطار التي كانت تروج بأن تحالف الصدر مع شركائه في الدعوة لحكومة الأغلبية من الكرد والسنة، محاولة للتفريط في حق المكون الشيعي.
المهم، أربع عناوين طائفية تحولت إلى "ترند"، ونجح المروجون لها في أن ننشغل بها طوال الأيام الماضية، ففي العراق لا يعبّر "الترند" عما هو رائج من أزياء وتسريحات شَعر، والتقليعات الأحدث في عالم الموضة، فهذه المواضيع المترفة ليست من اهتمامات العراقيين، والسبب ليس لعدم وجود فئات تهتم بها، بل إنَّ مَن يعيش في فوضى التهريج السياسي، والتي تتحول إلى "ترند" في وسائل التواصل الاجتماعي، تكون انشغالاته بمعارك وهمية يريد السياسيون الطائفيون أن ينشغل بها وترك أولويات حياته اليومية التي لحد الآن تعجز الحكومات عن توفيرها في بلد يصدر يوميا أكثر من ثلاثة ملايين برميل نفط.
في العراق الترويج لـ"الترند الطائفي" من مهام جيوش إلكترونية، كونه وسيلة لإلهاء الجمهور عن كثير من الملفات التي تتخوف الطبقة السياسية من إثارتها، لذلك يتم إشغالهم بالترويج لمواضيع طائفية، وتكرار الحديث عنها. والمشكلة أن كثيرا من القضايا التي تثير النعرات الطائفية في منصات التواصل الاجتماعي جمهورها هم الأميون الجُدد. وهم فئة كثيرة العدد من المتلقين يعتمدون في معلوماتهم على ما يُنشَر في وسائل التواصل من دون متابعة أصل المعلومات ودقتها ومصداقيتها، ومن يقف وراءها.
لا أحد يمكن أن ينكر النجاح الباهر الذي حققته الطبقة السياسية الحاكمة، في تنميط الرأي العام بأن العناوين المكوناتية (البيت الشيعي، البيت السني، البيت الكردي) هي واقع لا يمكن تجاوزه. ومن ثم، بات التعامل مع الانتماء لهذه المكونات هو الأساس في الخطاب السياسي. لذلك يبقى الطائفيون السياسيون قادرين على الاستثمار في العناوين الطائفية، لأن المجال العام بات متقبلا لتداول العناوين الطائفية ومناسباتها.
يفكر السياسي الطائفي بطريقة شيطانية، فهو يريد أن يستثمر في المناسبات والشعارات الطائفية، وفي الوقت نفسه يريد أن تكون هي رصيده في العمل السياسي، لأن رفع لواء الدفاع عن الطائفة وشعائرها ورموزها يعطيه حصانة ضد المساءلة والمحاسبة عندما يقصر في مهامه السياسية، ويوفر له تبريرا وممانعة ضد الانتقاد السياسي، لأن من ينتقده يكون ناقدا لدفاعه عن قضايا حقوق المكون الطائفي وليس له شخصيا.
يشتغل الطائفيون، وبحرفية عالية، على تهميش عناوين مثل "الشعب"، "الأمة"، "المجتمع" من التداول في الخطاب السياسي. ويريدون إشاعة "الطائفة"، و"تمثيل المكون". وهنا يعمل على إلغاء فردية المواطن، والتقهقر نحو الولاء للطائفة وزعاماتها السياسيين؛ لأنهم هم القادرون على حمايته من أبناء الطوائف الأخرى الذين يريدون "إنهاء وجوده" أو "انتهاك حقوقه". وحينها تغدو الطائفة وزعماؤها السياسيون هم كل شيء، ويتحول المرء، الفرد، المواطن، إلى لا شيء. وحينها تختفي كل ملامح تقسيمات المجتمع السياسي، ويتم اختزالها فقط في "الروابط الطائفية".
أمام تغول الخطاب السياسي الطائفي، تختفي سرديات فشل مشروع الحداثة والدولة الحديثة الذي تم تبنيه بعد الاستقلال والإخفاق في إنتاج هويات وطنية راسخة تستوعب نزوع الأفراد إلى البحث عن هوية جمعية تمثلهم وتتلاءم مع ثقافتهم. لأن السياسي الطائفي ينجح في ملء الفراغ الذي سببه غياب الدولة عن الحضور في المخيال الاجتماعي والسياسي. ويتم التعايش مع حكام الطوائف باعتبارهم واقع حال لا يمكن تغييره.
وإذا كانت الديمقراطية الغربية الناضجة تواجه مشكلة صعود الحركات الشعبوية وخطابها، فإن ديمقراطيتنا الهشة ابتُليت بالسياسيين الطائفيين. فالطائفي يتعامل بمزاجية مع الديمقراطية، لاسيما عندما يستشعر أن أبناء طائفته يشكلون الأغلبية. فهنا نكون إزاء ظاهرة فرض شعاراته ورموزه وممارساته التي تقدسها طائفته على الآخر المختلف، وعندما يتم الاعتراض على محاولة فرضها، يتم الاحتجاج بالديمقراطية التي تضمن حق التعبير وحقوق الأغلبية المكوناتية.
المشكلة، أيضا، أن الطائفي عندما يشتغل في السياسة لا يريد مغادرة عقدة المظلومية، سواء كان أقلية أو أغلبية. فالأغلبية تعتقد أن هيمنتها على الحكم هي فرصة للانتقام من الماضي وكل من يرتبط به وكان السبب في شعورها بالمظلومية. وفي الوقت ذاته يستهوي الأقلية أن تشعر بأنها مظلومة من الأغلبية، رغم تمثيلها السياسي ودخولها في لعبة التوافقات السياسية وتقاسم مغانم السلطة.
مشكلة الطائفي سواء كان مجال اشتغاله في السياسية أو الثقافة، هوسه بقضايا التاريخ واستحضاره في جميع سجالاته. لذلك يبقى عاجزا عن التفكير في المستقبل وفاشلا في معالجة المشاكل الراهنة. وهو يريد دائما استحضار "الأموات" كي يعيشوا بيننا. وهم، كما يصفهم المفكر السعودي توفيق السيف في مقاله "الأموات الذين يعيشون في بيوتنا": "إن الشوقَ للتاريخ يتأثّر بدوافع عدة أهمها: بعض الناس يذهبون للتاريخ مثلما يزورون المتاحف، غرضهم المعرفة أو الاستمتاع بتجربة حياتية مختلفة عمّا اعتادوه. وثمة مَن يزور التاريخ سعيا للخلاص من مشكلات راهنة، لكنَّ جذورها ممتدة للماضي. يريد هؤلاء الخلاص من ذكريات التاريخ البغيض، من خلال اعتذار يشكل نوعا من المصالحة الأخلاقية بين الظالم والمظلوم. وثمة مَن يذهب للتاريخ محاولا (إعادة تصنيع) هوية قابلة للاستعمال في الصراعات السياسية الراهنة. ولهذا المنحى علاقة جوهرية بمفهوم الأمّة والهوية الجامعة. وأخيرا هناك مَن يذهب للتاريخ هاربا من الإقرار بعجزه عن مواجهة تحديات الحاضر، أو لأنّه غارق في ثقافة الماضي بقدر يجعله منقطعا تماما عن الحاضر. ولذا فإنَّ مجاورة الأموات تشكل أنسه الوحيد".