أخيرا صوّت البرلمان العراقي على قانون العطلات الرسمية، ومن ضمن هذه العطلات “يوم الغدير” الذي تحول إلى سجال بين السياسيين الشيعة أنفسهم ومن يرفضه، باعتباره ترسيخا للطائفية. حضرت الأعياد والمناسبات الدينية، وحتى العمال تم إقرار يومهم العالمي عطلة رسمية، لكن لا نعرف لحد الآن هل هذه الطبقة موجودة في المجتمع العراقي أم تحول أغلبهم إلى موظفين يعتاشون على اقتصاد الريع النفطي؟
حضرت أعياد المسلمين والمسيحيين والصابئة، وحضرت مناسبة قومية للكرد (عيد النوروز)، وجريمة حلبجة ضد الكرد أقرت عطلة رسمية. لكن العطلة الوحيدة لعنوان ورمز وطني كانت فقط «عيد الجيش العراقي». ربما لم يكن مهماً حضور الوطن، إذ تعودنا على غيابه، إلا في السجالات والخطابات الحماسية والشعارات التي يرفعها السياسيون في حملاتهم الانتخابية وتذيل عناوين تحالفاتهم بكلمة الوطن والوطنية. حتى الأسباب الموجبة لتشريع القانون، لم يكن فيها تأكيد لحضور المناسبات الوطنية، لأن الأسباب الموجبة لتشريعه هي «إبراز المناسبات الرسمية المرتبطة بحياة ومشاعر الشعب العراقي، وتنظيم العطلات الرسمية».
وعندما يغيب الإجماع السياسي والشعبي على مفاهيم وثوابت محددة لمعنى الوطنية، فليس من المستغرب أن تتحول إلى شعارات فقط في خطب السياسيين. لذلك لا يمكن الحديث عن “ثوابت وطنية” تحدد قواعد للسلوك السياسي بين الفرقاء والشركاء في العملية السياسية، فلم يتفق العراقيون بعد على ثوابت تحدد مرتكزات الهوية الوطنية: هل تقوم على أساس التاريخ أم الجغرافيا أم التاريخ المشترك؟
إذن، كيف يمكن الوثوق بطبقة سياسية صدعت رؤوس العراقيين بشعارات الوطنية، وهي منذ 21 عاما لم تتفق على نشيد وطني يجسد تاريخ العراق والأمة العراقية. وكذلك العلم الوطني لم يتم الاتفاق على تغييره فتم الإبقاء على علم يشير إلى وحدة فاشلة بين مصر وسوريا، وحتى التعديلات التي أُجريت عليه لم تغير دلالاته التي يفترض أنها تشير إلى تجسيد رمزية تاريخية للعراق.
القطيعة بين التاريخ والإجماع الوطني
لحد الآن، الخلاف واضح بخصوص العيد الوطني للدولة العراقية، ربما لأن الأيديولوجيات والتطورات السياسية تحكمت في السابق في تحديد اليوم الوطني. كان من يقود الانقلاب العسكري هو من يحدد اليوم الوطني الذي تم فيه إعلان البيان رقم واحد. لكن ما بعد 2003، كان عدم الاتفاق على دلالة اليوم الوطني واضحا جدا. بعد تغيير النظام السياسي، أرادت النخب السياسية الاحتفال بيوم 9 أبريل/نيسان كعطلة رسمية، وربما التمهيد لأن يكون “العيد الوطني”. لكنهم استدركوا أن التوصيف القانوني للقوات الأميركية التي أسقطت حكم صدام، أنها قوات احتلال عسكرية، ودخلنا في جدلية التحرير والاحتلال. فيما بعد لم يعد الموضوع من الأوليات لدى الطبقة الحاكمة، وانشغلت بالصراعات السياسية وبدأت تستثمر في العناوين الطائفية والخلافات السياسية بدلا من التفكير في تجاوزها.
حددت الحكومة السابقة، تاريخ انضمام العراق إلى عصبة الأمم في 3 أكتوبر/تشرين الأول عام 1932 يوما وطنيا، لكنه تقاطع مع يوم وفاة الرئيس الأسبق جلال طالباني عام 2017، ولذلك رفضه الكرد، رغم إقراره عطلة رسمية من قبل حكومة الكاظمي. كما أن المشكلة فيه أنه موعد قانوني ولا يرتبط بذاكرة تاريخية لها دلالات سياسية، ولذلك تعاملت معه الحكومة وكثير من العراقيين باعتباره عطلة فقط، من دون رمزية وطنية تؤشرها الاحتفالات كيوم وطني.
المشكلة الرئيسة هي غياب الإجماع الوطني على حدث تاريخي محدد في سيرة الدولة العراقية التي تشكلت في عشرينات القرن الماضي. كل من تعاقب على حكم العراق، كان يحدد اليوم الوطني باستيلائه على السلطة. إلا الطبقة الحاكمة بعد 2003 لم تفعل ذلك، ليس زهدا ولا تواضعا، ولكنها لم تكن هي من أسقط النظام السابق، وليست هي من أنتج واختار هذا النظام السياسي الحالي.
حتى النخب الثقافية والأكاديمية والسياسية، لم تتفق على يوم وطني. فالموضوع يعتمد بالدرجة الأولى على المزاجية الشخصية والولاءات الأيديولوجية، والانتماءات الطائفية. بعضهم يعتبره من تأسيس المملكة في العراق، وآخرون يريدونه من إعلان الجمهورية في العراق. وهناك من يريد أن يثبت أن أسس الدولة العراقية هم أبناء طائفته عندما أعلنوا “ثورة العشرين” ضد الاحتلال البريطاني.
ربما يقول عراقيون إن هذا نوع من العبث، بأن تطالب طبقة سياسية حاكمة لم تنجح إلا في تأسيس الخراب والفوضى والفساد، أن تكون أولياتها الاهتمام بمشروع بناء الدولة-الأمة، أو حتى ترميم ما تبقى منها. إذ كيف لمن يؤمن بمشروع تأسيس دولة منفصلة عن العراق، ومن ظل يعيش في أوهام الماضي كيف له هو لا غيره حق حكم العراق؟ وكيف لمن يحكم بسرديات المظلومية أن يتجاوزا هذه التعقيدات ويفكر في يوم وطني يحتفل فيه العراقيون من شمالهم إلى جنوبهم بتأسيس دولتهم؟
عندما تتربى الأجيال على أن اليوم الوطني للدولة العراقية هو عطلة رسمية فقط، فهذه المشكلة أكثر تعقيدا من عدم تحديد يوم وطني. إذ على عكس كل الدول التي تحيط بنا، فإن الحكومات السابقة لم تعط هذا اليوم استحقاقه لا في الاحتفال ولا الترويج له لترسيخه في ذاكرة الأجيال. ويمكن أن تتخيل أنه في ظل النظام السابق كان الاحتفال بعيد ميلاد الرئيس السابق يمتد لثلاثة أيام، ولا أتذكر أننا احتفلنا باليوم الوطني إلا باعتباره عطلة واستراحة من الذهاب إلى الدوام.
المكونات محل الأيديولوجيات
يقول ابن خلدون في مقدمته: “إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وإن لكل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت».
بلد مثل العراق تتقاسمه الانتماءات القومية والمذهبية، مع وجود حكومات ونخب سياسية فشلت في تبني مشروع وطني لبناء الأمة العراقية، وما صعود أو بقاء هذه الانتماءات القلقة إلا دليل واضح على فشل وتصدع بناء الأوطان، التي عمادها الدولة الحديثة، وبطلها المواطن الفرد المجرد من أية صفة أخرى. لذلك من الطبيعي جدا أن يبقى أبناؤه حائرين بين الانتماءات الطائفية والقومية التي تعلو على أي صوت يدعو للوطنية، ويبقى القدح المعلى لحماة المذهب وسدنة الطائفية والقومية.
أزمة الوطنية في العراق هي نتيجة طبيعية لفشل الأيديولوجيات في بناء الأمة العراقية، منذ تأسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي. إذ بقيت الفكرة الوطنية خجولة في الطرح أمام الطروحات الأيديولوجية التي تريد تذويبها لصالح شعاراتها الرئيسة، وهذا ما فعلته الشعارات الماركسية، التي كانت تدعو للأممية، وتخون من يحصر فكرة الأولوية في الأوطان، وليس لمبادئ الحزب الذي تقوده دولة كبرى مثل الاتحاد السوفياتي سابقا.
والتقاطع بين الأيديولوجيات وفكرة الوطنية هو محصلة طبيعية لتراكمات شعارات تتبناها النظرية القومية، التي روجت لها النخبة الحاكمة في العراق منذ ستينات القرن الماضي، ومعضلة النظرية القومية تكمن في أنها نظرية ثقافوية في الأمة العربية أكثر منها نظرية في الدولة الوطنية، وبمعنى آخر- كما يراها الباحث محمد جمال باروت- هي ليست نظرية في الدولة-الأمة بقدر ما هي على وجه الدقة والتحديد نظرية تفصل بشكل تام بين الأمة والدولة.
المشكلة الرئيسة غياب الإجماع الوطني على حدث تاريخي محدد في سيرة الدولة العراقية التي تشكلت في عشرينات القرن الماضي.
لم تتجاوز النخب السياسية التي تحكمنا اليوم محنة العراقيين مع أولوية الأيديولوجيات على هويتهم ومصلحتهم الوطنية، بل على العكس استبدلوا المكوناتية مكان الأيديولوجيا. فالإسلامويون الذين لهم الغلبة في الحكم والسيطرة على السلطة رسخوا هذه المحنة، وبدلا من أن يكون مشروعهم بناء هوية وطنية والدفاع عنها وترسيخها، بات مشروعهم الأول تغييبها تماما، وفرض المذهب الطائفي كهوية للدولة.
ختاما، ما دمنا قد عجزنا عن الاتفاق على تاريخ أو حدث محدد لتأسيس الدولة العراقية، لنبحث عن شبه اتفاق يؤسس لهذا المناسبة. والبداية تكون في تحديد الأطر العامة التي يمكن أن نبحث عنها في تحديد اليوم الوطني، وكيفية ترسيخه في ثقافتنا وثقافة الأجيال القادمة. ولذلك علينا مراجعة ما كتبه بندكت أندرسون في كتابه “المجتمعات المتخيلة” في رؤيته لبناء الدولة على أساس “الهوية المتخيلة”، التي ترتبط في الغالب بالقدرة على تشكيل سردية تاريخية مشتركة بدرجة ما، قسرا أو طواعية، والأهم اتصالها بمصادر القوة المادية لتوسيع حدود الوطن. وتكلل هذه الجهود بإنتاج “الدولة” وبلورة سيادتها، بداية في عقول قاطنيها، ولاحقا في الفضاء الدولي. ومن ثم، في قدرتها على صهر الانتماءات الفرعية للأفراد المواطنين لضمان عدم تخطيهم سيادتها القانونية والمادية عليهم.