تعتبر مهنة الدعارة من أقدم المهن في التأريخ الإنساني حيث وجدت مع تواجد الفوارق الإجتماعية من جهة ومع وجود الغرائز الإنسانية من جهة أخرى ، فتٌُدفع المرأة بهذا دفعاً إلى الهاوية ، فتضطر إلى بيع قطع من جسدها ، كما قد يضطر بعض المحتاجين إلى بيع أجزاء من أجسادهم مثل العين والكلية ، إلا أن تجارة الجسد من قِبل المرأة تبقى مدعاة خجل وعار لها ولمجتمعها .
لو ألقينا الضوء على إنتشار مهنة الدعارة في الدول العربية لوجدنا أن هذه المهنة تتمتع بالمشروعية القانونية في بعض الدول وقد تحميها الدولة أحياناً أو تلاحقها وتمنعها في دول أخرى . وتنتشر في الكثير من الدول العربية هذه التنظيمات اللا أخلاقية وتتركز في المناطق القديمة والمعزولة وفي أطراف المدن وتتباين مواقعها ما بين الملاهي الليلية والشقق المؤجرة في دول مثل مصر وسورية والمغرب وتونس والأردن ولبنان ودول الخليج . وتعمل العاملات في هذا المجال تحت عنوان ( فنانة ) لممارسة الترفيه لزبائن هذه المحلات . ويسهل إنتقال هؤلاء ( الفنانات ) ما بين لبنان وسوريا والأردن ، كما ظهرت هذه التنظيمات في اليمن تحت إسم الزواج العرفي القصير المدى وبأشكال الدعارة التقليدية أيضاً حيث ينتقل بعض الخليجيين للإستفادة من هذه الخدمات . أما في العراق فقد كانت موجودة من قبل الإحتلال ثم إزدادت بشكل كبير بعد الإحتلال ، حيث تبلورت شرائح نسائية عاطلة وعدد هائل من الأرامل والأيتام ، وإضطُر البعض منهن للإنخراط في هذه المهنة . وقد تبلور من بين العاطلين سماسرة قاموا بتنظيم هذه المؤسسات والتي تعتبر من أكبر العمليات المنظَمة لتجارة البشر ما بين العراق والأردن وسوريا ودول الخليج ، وإمتلأت الملاهي الليلية بهن سواء مع القادمات من دول أوربا الشرقية وبعض جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق .
ندرج هنا بعض الملاحظات عن أوضاع الممتهنات لهذه المهنة في الدول العربية والتي تشكل بيئة صالحة لها ، فهي تسقي هذه النباتات السامة بتربة ملوثة هي أشد سُماً .
في المغرب مثلاً يوجد في العاصمة ما لا يقل عن 7333 عاهرة وأغلبهن مطلقات أو أرامل أو منقطعات عن الدراسة الإعدادية . أما تونس فتعتبر البلد العربي الوحيد الذي يسمح بمزاولة تجارة الجنس في بيوت مغلقة ، لكن هذه المهنة قد حوصرت بعد ثورة الربيع العربي أو ثورة الياسمين في تونس . وقد ألقت الضوء على هذه البيوت المغلقة الصحفية الألمانية ( كرستينا أُجلين ) . وتقوم الدولة بتشديد الرقابة الصحية على هذه المواقع ، وكانت تونس هي أول دولة عربية تعرض فلماً مغربياً عن تجارة الجنس من مخرج مغربي ( نبيل عيوش ) بعنوان ( الزين اللي فيك ) والذي مُنح جائزة في مهرجان كان السينمائي ، ثم عُرض في تونس 2015 وحصل على الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج السينمائي ، وفي مهرجان ( دريم ستي ) . وقد أخرج الفنانان ( ليلى سليمان من مصر ورود غلينز من بلجيكا ) فلماً وثائقياً عن بعض الأزقة التي تمارس فيها هذه المهنة داخل البلدة القديمة في تونس وفي منطقة الأضواء الحمراء . وقد تعرضت هذه المناطق لحالات الغضب الشعبي وحوصرت النساء الممتهنات بعد الثورة الإسلامية . أما في مصر فتكثر هذه التجارة في الملاهي الليلية والبيوت الخاصة وقد أُعتبرت لفترات طويلة مورداً سياحياً وأستُخدمت أيضاً لأغراض سياسية ، فقد كشفت تصريحات أحد الضباط الكبار السابقين في المخابرات المصرية عن عمليات تسمى ( عمليات الكونترول ) والتي يُستخدم فيها صناع الجنس نساءً ورجالاً إستخداماً إستخبارياً بالتوجه إلى وجوه سياسية وإقامة علاقات معها لغرض الحصول على المعلومات السياسية وتستخدم أحياناً لغرض الهدم الشخصي لبعض الشخصيات السياسية المعارضة ، وأحياناً للتجنيد في أجهزة الأمن وهذا يشمل الأجانب والمصريين ، وقد بدأت هذه العمليات منذ الستينات ، وقد أكد هذا ضابط الإستخبارات المعروف (محمد صفوت الشريف ) والذي أكد أيضاً بأن ( الجنس هو أخطر طريق للمعلومات ) ، وتتم هذه العمليات بحجة المحافظة على الأمن القومي .
إن إرتفاع مستوى الدخل في دول الخليج وخاصة الإمارات قد جعلتها سوقاً رائجة للكثير من الجنسيات لصناع الجنس من عربيات وأجنبيات ، وقد إنضم إلي هذه المهنة مؤخراً الكثير من العراقيات الهاربات من الجحيم الإقتصادي والسياسي العراقي .
إن إتفاقية حظر الإتجار بالبشر وإستغلالهم للدعارة قد وُقعت منذ عام 1949 ونُفذت في 1951 ، لكن الكثير من دول العالم مثل الأمريكيتين لا زالت تمارس هذه التجارة كما في اليابان أيضاً والتي تدر عليها هذه المهنة أرباحاً طائلة ، ففي سنة 2015 درت هذه المهنة ( ترليون ين ياباني ) أي ما لا يقل عن 1٪-;- من الناتج القومي الإجمالي وهو ما يعادل الميزانية المالية المخصصة للدفاع في اليابان . وتُمارس هذه المهنة أيضاً في كل دول العالم مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا والدنمارك وايطاليا وتدخل فيها عناصر من كافة شرائح المجتمع ومعظم الأعمار . وتعتبر قانونية في هولندا وسويسرا وبلجيكا وألمانيا ، ويستخدم فيها الكثير من النساء القادمات من آسيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية .
ولو لاحظنا المؤشر العام لهذه الظاهرة نرى أن معطم الدول الأوربية تسمح بممارسة هذه المهنة لكنها تحرم الإتجار بالبشر ، أي الدفع القسري أو إستدراج العاملات إلى هذه المهنة أو إستجلابهن من آسيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية .
إذا وضعنا تحت المجهر إحدى الدول العربية والتي إتسم مجتمعها لقرون عديدة بالصرامة القيمية لوجدنا أن هذه المهنة قد إنتشرت بين أوساط الفقراء بعد تدني الحد الأدني للفقر وإنتشاره بين الملايين من العراقيين ، ولا فرق هنا بين المتعلمات وغير المتعلمات ، ولوجدنا أيضاً أن هذه الشرائح قد إبتعدت تلقائياً عن المجتمع العراقي وإتخذت أطراف بغداد سكناً لها في مناطق تسمى ( الكمالية ، الطوايل ومناطق القواسم ) ، وتعتبر هذه المناطق بقع سرطانية ضمت كل بكتيريا المجتمع العراقي ، فظهر فيها العاطل والعاطلة ومن أطاح المجتمع بحسه القيمي وأصبح لا فرق لدية بين الخطأ والصواب ، والكل على خطأ ويدعي الصواب ، وقد تعود أن يرى منذ ثلاثين سنة أو أكثر بأن كل شيء مباح ، فدم الآخر مباح ، وملكه مباح ، والشر والخير يلتقيان في برزخ ضيق ولا ضير من ممارستهما في آن واحد . لقد إطلعت على الكثير من الفيديوات الوثائقية التي تفضح مجموعات من السماسرة والذين يوظفون أخواتهم أو زوجاتهم في هذه المهنة ويدعون بأنهم موظفين وهو مجرد ( أكل عيش ) وكأي تجارة أخرى ، لذا فهم يضعون تسعيرة لكل فتاة حسب عمرها وجمالها ، وقد لاحظت أن البعض منهن خريجات جامعيات وعاطلات ، أو أرامل ومطلقات .
ولو تساءلنا لمِا تبوء محاولات الأجهزة الأمنية والجمعيات الإنسانية والمنظمات الإجتماعية والفرق الدينية بالفشل . إن هذه الظاهرة هي غريبة على المجتمع العراقي والجذور المغذية لها هي نفسها المغذية للكثير من الظواهر السلبية المفزعة والتي ظهرت في العراق قبل 2003 وتبلورت بعد الإحتلال ، حيث تعلم الفرد العراقي أن يسرق المال العام السائب لوحده ثم من خلال مافيات مبرمجة ، ثم تعَلم أن يخطف أطفالاً من أبناء منطقته ، وتعَلم أن يقتل لقاء مقابل بخس ، وأن يدعي التزمت للدين فيقوم بهدم المساجد ويصنع فتاوى يقلب فيها القرآن رأساً على عقب ، ثم أصبح يرتكب جرائم جماعية بعد أن كانت فردية . إن الضمير الإنساني يحتاج إلى ضربة واحدة لكي ينحدر إلى الأسفل درجة بعد درجة ، فبعد السرقة الأولى تسهل كل أنواع السرقة ، وبعد القتل الأول تسهل كل أعداد القتلى ، كذلك مهنة الدعارة ، فهي من إنجاب الفقر والتفكك الإجتماعي ونسب الطلاق المرتفعة ، وإحباط الرجل والمرأة العراقية من بعضهما ومن مجتمعهما حتى أصبحت هناك أعداد متزايدة من المتجهين إلى دروب الظلام ، وفي المقابل هناك من يُمسك بقيمه بأظافره ويُمسك بمصارين بطنه حتى لا يحس بالجوع .
أُرسلت لي صورة عن إمرأة عراقية تبحث في مزابل بغداد عن العلب الفارغة للمشروبات الغازية لكي تبيعها ولا تضطر للتسول أو غير ذلك ، كما تنتشر في بغداد خبازات البيوت أو منظفات المدارس والدوائر الحكومية ومهناً كثيرة إمتهنتها النساء الفقيرات والأرامل وبعض المطلقات ، كما يقفن صامدات بوجه الفقر والرذيلة الكثير من المناوبات الليليات من طبيبات وصيدلانيات بالإضافة إلى أعلام الأدب والأكاديميات اللواتي يفخر بهن العراق .
لا يمكن للفقر أن يكون هو السبب الوحيد للإتجاه نحو هذه المهنة ، بل هو التكسر القيمي للفرد والمجتمع معاً ، فاليابان مثلاً لا يعاني نساؤها من الفاقة لكنها المهنة الأسهل والتي تدر ربحاً بلا مقابل .
هناك العديد من الأمثلة على إستدراج السماسرة من تجار البشر في العراق للكثير من الفتيات وقد يبدأ عملهم بالزواج الصوري لإحداهن ثم تبدأ المتاجرة بها منذ الليلة الأولى ثم يقوم بنقلها من رجل لآخر وإستلام أتعابها . بعد ملاحظتي لأحد الفيديوات لاحظت أن السمسار لا يشعر بأي ذنب وقد تعود على ما يقوم به ويعتاش عليه . لا أدري إن كان هذا الرجل قد بحث طويلاً عن عمل قبل أن يقرر أن يكون سمساراً ، ولا بد أن جدار القيم قد تكسر لديه قبل الإحتلال وهؤلاء هم البعض من جيل الحصار والجوع والمطاردات البوليسية والظلم الإجتماعي والسياسي ، وقد وجدوا أن صرحاً دموياً قد بني من جديد فألغى أحلامه بالتغيير فهو واقف في نقطة لا ماض لها ولا مستقبل ، فقرر البعض من هؤلاء أن يتجهوا نحو الطريق الأسرع والأسهل فهو أما أن يكون قاطع طريق أو قاتل مأجور أو سمسار للدعارة . لقد قُتلت الكثير من الفتيات في منطقة ( زيونة ) لإشتباه عملهن في مجال الدعارة ، وقد قُتل 27 فتاة في إحدى الشقق من خلال إحدى الميلشيات وبواسطة مسدسات كاتمة الصوت ، وهكذا وقعن هؤلاء النساء ما بين أحابيل السياسة والسياسيين ، فهن نتاج للبيوت والعوائل التي تهدمت من قبل وبعد الإحتلال والبطالة المنتشرة بين الشباب ، وتحطم البنية التحتية وبعدها التفكك واللامبالاة الأخلاقية .
إن السياسة العربية عريقة بإستخدام النساء ومهنة الدعارة للوصول إلى أهداف محددة وهي محمية من قبل شبكات حكومية وأمنية متورطة فيها كما حدث للسورية ( ناريمان ،،،واحتفظ باسم العائلة،،،والتي أزاحت اللثام عن شبكات محمية للدعارة في سوريا يديرها عشرات الأشخاص من سوريين وعرب وهم يتمتعون بالحماية من قضاة وضباط أمن الذين يتقاضون مبالغ طائة من السماسرة حيث تتم حمايتهم وإبلاغهم مسبقاً بأي حملات مداهمة على الأوكار الموجودة في دمشق أو اللاذقية أو مدن الساحل . وحينما قدمت ناريمان إعترافاتها للقاضي ، تساهلت السلطات مع الأسماء التي كشفتها وأُطلق سراحهم بعد فترة وجيزة بينما سُجنت ناريمان . ولقد تحدث الكثير من المواطنين من سوريا ومصر لإذاعة هولندا العالمية عن كيفية إقناع السماسرة للأهالي لتزويج بناتهم لأثرياء الخليج ، ثم تُسحب لتجد نفسها بعد ذلك في الشقق المفروشة ، وتحدَث أحد المحامين العراقيين لهذه الإذاعة عن الدعارة المقنعة في بغداد على نطاق واسع إذ ترتدي العاهرة الحجاب خشية ملاحقتها ، وقد تتم هذه التجارة من خلال زواج ( المتعة أو زواج المسيار ) .
لقد رفض البرلمان العراقي ظاهرة الدعارة ودور المافيات الإقليمية وبعض الدول العربية في ظهورها وآثارها القاتلة على المجتمع العراقي ، كما أكدت التقارير الدولية عن آلاف الفتيات اللواتي أختُطفن في السنوات الماضية ومن بينهن آلاف الأيزيديات في ظل تجاهل حكومي وأمني .
يذكر الكاتب البريطاني ( جون برادي ) في كتابه المعروف ( خلف حجاب الرذيلة ) عن تجارة وثقافة الجنس في الشرق الأوسط ، وقد وصف الكاتب العرب بأنهم مصابون بالقلق الجنسي ، وأن إحباطاتهم تتفاقم لأسباب كثيرة ، ويتحدث الكاتب عن دول مثل سوريا ومصر والمغرب واليمن وممارسة الجنس غير المشروع فيها بأساليب مختلفة ، حيث تباع القاصرات لرجال كهول وفقاً للتقاليد القبلية ولمدة معينة ، ويؤكد على أن صناعة الجنس مزدهرة في الخليج العربي كما تزدهر المثلية الجنسية وينتشر ما يعرف بالجنس الثالث في المجتمعات العربية ، ولهم مقاهي خاصة وأماكن للتجمع ومصطلحات معروفة فيما بينهم . وقد أكد برادلي على أن تجارة الجنس قد أصبحت أكثر تسييساً في مصر منذ أوائل القرن العشرين ، وحاربتها الحركات اليسارية والإسلامية وأُعتُبرت بيوت الدعارة رمزاً للإنحطاط والنفوذ الأجنبي ودعت إلى إغلاقها .
إن الدول العربية ترفض إعداد الإحصائيات الضرورية عن أعداد المتورطين في هذه التجارة ، وأعتقد أن هذا سببه الرغبة في الحفاظ على سمعة الدولة وتورط بعض المسؤولين بتلك الشبكات . إن الأمر الواضح في هذه المشكلة هو صعوبة حلها حلاً جذرياً إلا بقلب الواقع الحضاري للدول العربية ، حيث تميزت من قَبل الأمة العربية بالسمو القيمي ، ولكن ما أن تكاثرت على جسد الأمة العربية السكاكين حتى بدأ هذا الجسد بالتقرح ، والأكثر إيلاماً من هذا هو أن هناك من يتمتع برؤية هذه القروح ويدعي محاولته لعلاجها تارة بتعويذات المشعوذين أو بسيوف المجاهدين ، وتارة أخرى بكاتمات الصوت ، ثم تارة بالرجم ودفن الأحياء ، ثم تارة أخيرة بحرق المدن بأكملها لتطهيرها ولكن بلا جدوى لأنهم نسوا تطهير الجذور .