فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني
بقلم : د. نادية هناوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

منذ ثورة أوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر، والعالم غير الصناعي ينظر بعين الريبة إلى المستحدثات الصناعية والمبتكرات العلمية، متوجساً مما ستصل إليه الثورة العلمية من اختراعاتٍ وتقنياتٍ، فيضع احتمالاتٍ مستقبليةً فيها كثير من التمحل والتخييل. ولقد جسَّد أمين الريحاني هذا الحال في روايته(المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية) 1903 وموضوعها المخترعات الحديثة وأبطالها حيوانات تقدم مظلمتها أمام المحكمة، دفاعا عن نفسها أمام تيار سيجرفها هو التمدن والتقدم. وكان الحصان هو أول المتظلمين، فقال وهو يقف في حظيرة الإسطبل:

(إن هذه الاختراعات الجديدة ضربة قاضية علينا. وكل مظهر من مظاهر هذا التمدن الحديث يضر بمصالحنا ويحط من مقامنا. أمست سلطتنا الآن ترسا للدفاع بعد أن كانت حساما للهجوم. لقد سلبتنا الكهربائية حقوقنا، وتعدى البخار على مصلحتنا، ودخل الهواء بيوتنا.. أما والحق فإن هذا انقلاب سريع عظيم، نحن الآن على شفير الهاوية، أمامنا الظلمة غير المتناهية، والعمق الذي لا يحد، ووراءنا جحافل الكهربائية والبخار) وأدلت حيوانات أخرى بمرافعاتها ضد المخترعات الجديدة. ونظرت المحكمة في الدعاوى واتخذت قرارها، وصوره الريحاني بطريقة مشهدية، وقد صفر قطار العلم، سائرا على طريق التمدن يقود عربات البخار والكهرباء.

إن ما تستشرفه هذه الرواية قبل قرنين من الزمان يصلح لكل عصر، فالتقدم العلمي لا نهاية له. ومهما تخصصت أبعاده واقتصرت أبحاثه وتقنياته على دول التكنولوجيا والسبرانيات، فإن التحديث سينتشر لا محالة، وسيصل إلى شعوب العالم أجمع. ولعل ما ينتظره العالم في غده من مستحدثات ومبتكرات سيكون سريعا بسرعة ميادين التكنولوجيا نفسها. بيد أن البلدان (النامية) ستبقى في كل الأحوال بلدان استهلاك، وعليها تراهن تجارة الدول المصدرة لتكنولوجيات الرقميات والأجهزة فائقة الذكاء. وهذا ليس بالجديد فمنذ العصر الاستعماري وليس لشعوب هذه البلدان دور سوى الاستهلاك وتقديم المواد الخام، وبما يضمن للدول المتقدمة أن تستمر في تجارتها الرابحة فتدوم من ثم سطوتها. وليس بعد ذلك للشعوب المستهلِكة أن تقف في وجه المد الرقمي كما لا يمكنها أن تُفتي في ما يصلح وما لا يصلح من المخترعات التقنية؛ فتقدم مرافعات، فيها تحذر وتخوّف مما لا تعلم عنه سوى عُشر ما يرغب العالم ما بعد الصناعي أن يطلعها عليه من أسرار علمية تخص الفضاء والإعلام والتعليم ومستقبل الأرض وما إلى ذلك. فلقد ضمنت الدول المصنعة قبل أن تُصدر إلينا أي مخترع جديد أن تحتكر ثلاثة أرباع أسراره العلمية، إن لم نقل أربعة الأرباع إلا عُشرا. وإلا هل يمكن لأحد أن ينكر أن الكهرباء التي هي عصب الصناعة ما زالت في أغلب البلدان العربية وفي مقدمتها العراق، تعمل بشبكات متهرئة عفا عليها التقدم ما بعد الصناعي، لسبب رئيس هو أن الغرب لا يريد لها أن تتجدد كي لا تكون بادرة تحفزنا على التباري معه، وقد نتحرر من عجزنا. وهذا ما يحتاط له الغرب أشد الحيطة وبكل الوسائل المتوقعة وغير المتوقعة.

ولنحدد القول في واحد من مخترعات أو مستحدثات العولمة ألا وهو الذكاء الاصطناعي الذي يبدو للكثيرين اختراعا جديدا، ظهر فجأة، والحقيقة أن عمره الآن يتجاوز قرنا إلا نيفا. وأول اختراع له كان في خمسينيات القرن الماضي. وما محركات البحث مثل جوجل وياهو وبرمجيات اللغة والترجمة سوى نماذج للذكاء الاصطناعي، وثمة نماذج أخرى أكثر تعقيدا، وتتطور في كل آن بشكل مذهل بحسب تطور علوم السبرانيات وتكنولوجيا الرقميات والحوسبة العصبية.

ومجالات الذكاء الاصطناعي تشمل الحياة كلها لكن أكثر المجالات حساسية وخطورة هي تلك التي تتعلق بمسائل على درجة كبيرة من الأهمية مثل الطاقة والأمن ومستقبل الأرض وغزو الفضاء وما شاكلها. وسنركز القول في مجال يتعلق بتخصصنا وهو الأدب ونقده، فهل يكون للذكاء الاصطناعي دور في تطويرهما؟ وما صحة ما يتردد في الآونة الأخيرة بين أوساط الأدباء والكتاب - في مجالسهم الأدبية أو صفحاتهم على مواقع التواصل الافتراضية- من تكهنات يصدرها نفر يدعي المعرفة بمستقبل هذا الذكاء، متوقعا أنه سيحل محل الموهبة والاكتساب وسيسحب البساط من تحت أقدام مبدعي الأدب ومحترفي النقد؟

إن ما توصف به هذه التكنهات هو أنها تقولات، وليست استنتاجات بل هي تجارب ذاتية في استعمال الذكاء الاصطناعي، ولا فرق فيها إن كانت عن قراءة وتطبيق أو كانت مجرد فضول أو أنها تمت بإشراف تقنيين ومهندسين. وما البحث في تقنيات الذكاء الاصطناعي عن كتابة الأدب والنقد سوى تعبير عن رغبة في الإفادة من الآلة بسبب عجز الموهبة أو بالأحرى الافتقار إليها. وصحيح أن من حق مستخدم الذكاء الاصطناعي أن يوظفه في سبيل تطوير عمله أيا كان علميا صرفا أو أديبا محضا لكن ذلك لا يكون بقصد تسخيره بشكل سلبي كأداة للتزييف والإيهام والتضليل، مما لا تقبل به القيم الأخلاقية.

وما بث الأفكار المغلوطة عن الذكاء الاصطناعي بوصفه يهدد مستقبل الأدب والنقد وأنه سيساوي المبدع مع غير المبدع سوى محض هراء؛ فالذكاء الاصطناعي لا يملك الموهبة التي يملكها الأديب الخلاق المقراء المعطاء كما لا يملك هذا الذكاء الأدوات الراكزة التي يملكها الناقد الحرِّيف صاحب القدرات والإمكانيات المطلوبة.

إن ما نشخصه في هذا النفر من مشيعي الأفكار الخاطئة والمغالطات حول الذكاء الاصطناعي، إنما يأتي من حرصنا على الأدب والفن، ولكي نضع النقاط التي توصلنا إلى الحقيقة، فلا تتحول التكهنات إلى إشاعات يساهم أنصاف المتعلمين في نشرها وبهرجة صورها وعندها لن ينفع أي علاج.

وربما هناك دوافع نفسية سلبية كالحسد والغيرة من المبدعين الأصلاء، تحفز على بث المغالطات لكن الأهم من ذلك هو الوقوف وقفة متأنية عند حقيقة الذكاء الاصطناعي وما له من إمكانيات. ولقد قمنا بتجارب عملية على تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتاحة مجانا والأخرى مدفوعة الثمن كي نثبت خطل ما يتم ترويجه من مغالطات تتكهن بأن الأدب سيكون اصطناعيا وما من إبداع بشري يمكن أن يجاريه مستقبلا. فسألنا الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته chat gpt وchat gpt2 وchat gpt3 و chat gpt4 كلا على حدة أن يكتب قصة غرائبية فأعطى إجابات بسيطة غير مقنعة ثم سألناه أن يكتب قصة شيئية فجاء بقصة عن كنز في جزيرة محاكيا بشكل ساذج أحداث (روبنسون كروزو) ثم طلبنا منه كتابة قصة من الخيال العلمي تحدث في بداية الألفية الرابعة فأجاب بقصة مضحكة لا تقنع حتى الطفل ومكررة ومعروفة منذ القرن التاسع عشر. وحين سألنا الذكاء الاصطناعي أن يكتب قصيدة على البحر الطويل وأخرى قصيدة تفعيلة، أعطانا بضعة أبيات باهتة لا بسبب ما فيها من خلل عروضي، بل أيضا افتقادها بشكل مؤكد لروح الشعر تشكيلا ووزنا. وثمة أسئلة أخرى، كانت إجاباتها بعيدة كل البعد عن الإبداع الحقيقي وأحيانا مخطئة مثل السؤال عن أديب عراقي اعتبره جي بي تي مصريا وذكر أعمالا له غير حقيقية. هذا إلى جانب أسئلة لم يقدر جي بي تي على الإجابة عنها، وأقرَّ أنه مصمم للمساعدة بناءً على البيانات المدرب عليها وأنه لا يحل محل الإبداع وإنما يعتمد على (التغذية الراجعة) وأن هذا يشكل تحديا له في بعض الأحيان.

وصحيح أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي مدفوعة الثمن أكثر عمقا وسعة من نظيرتها المجانية، بيد أن لا إبداع فيها أيضا. فحين سألنا الذكاء أن يكتب دراسة نقدية عن قصة صحيفة التساؤلات للقاص المعروف محمد خضير وأخرى عن رواية المخطوط القرمزي وثالثة عن قصيدة مالك بن الريب "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة" ورابعة عن قصيدة محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر"، كانت إجابات chat pgt 1,2 ساذجة وبسيطة وإجابات 3,4 chat pgt عبارة عن شروح ومعلومات لا جديد فيها البتة كونها تقوم على تجميع بيانات متوفرة أصلا على الشبكة العنكبوتية، وتتم محاكاتها بطريقة التنظيم والتخطيط مما لا يقدر الإنسان على القيام به، لكن ما يميزه عليها انه قادر على الإبداع وابتكار ما هو غير مودع داخل تلك الشبكة.

ولا يغيب عن بالنا أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي تطوير متقدم لمحركات البحث مثل جوجل وهي ليست لعبة يتسلى بها الجهلاء، ولا هو دعوة للدعة والراحة وترك التفكير، ولا هو بديل عن الموهبة. ولا شك في أن الذكاء الاصطناعي موجود في كل مكان في البيت والسيارة والعمل ومراكز التسوق وأماكن الترفيه وما إلى ذلك، وهو ينفع للمهام التجارية كالإعلانات وتسويق المنتجات ومنها قصص التسلية للكبار والصغار، ولكن ضرره خطير جدا في ميدان التعليم، إذ سيلجأ الطلبة إليه في انجاز ما يطلبه منهم أساتذتهم من واجبات خارجية كالإنشاء والتقارير المعرفية علمية وأدبية، تُطلب في الدراسات الثانوية والجامعية. ولجوء هؤلاء الى الذكاء الاصطناعي سيعطيهم نتائج مشابهة وقوالب جاهزة تحيد نشاطهم الذهني وملكاتهم التعلمية. فيتخرج جيل لا يفقه شيئا مما ينبغي أن يكون قد تعلمه في مراحله الدراسية.

وفي مجال الأدب والنقد، يُظهر الذكاء الاصطناعي قصورا ونواقص، تنتظر من العلماء أن يحسموا الأمر فيها كونها معقدة وتبدو عويصة على الحل لصلتها العميقة بمسالة مشابهة الآلة للإنسان في اللمس والحس والدوافع والعواطف؛ فالعقل الصناعي لا يملك ما يملكه العقل البشري من مهارات ذاتية مثل الإدراك الحسي والانفعال النفسي والقدرة على ابتداع ما هو غير مبتدع. وهذا كله مدار اهتمام علم النفس المعرفي الذي يقر بأن أكثر مجالات الذكاء الاصطناعي صعوبة هي التي تتعلق بالإبداع واللغة والعاطفة. ناهيك عن حقيقة أخرى هي ان هذا الذكاء الاصطناعي - الذي لا قيمة له من دون توفر تيار كهربائي وشبكة انترنت وأجهزة ذات مستشعرات خاصة- لا يمكنه أن يكون فاعلا ما لم يكن للذكاء البشري دور فيه.

ولقد تطور الذكاء الاصطناعي عبر ثلاث مراحل: المرحلة التقليدية وهي في متناول أيدينا نظرا لقدمها، والمرحلة الرمزية وهي متاحة للمتخصصين بالشبكات العصبية الترابطية، ومرحلة البرمجة المتطورة وهي الجارية اليوم بالأتمتة الخلوية التي تريد ان تفك شفرة عمل الدماغ البشري بوصفه آلة لا تعمل بالمنطق وحده وينبغي ان تتمتع أيضا بدينامية حرارية تفشل أمامها خوارزميات الحاسوب ومعادلات المنطق الجبري اللوغارتمي وحسابات التفاضل والتكامل الرياضية.

وما تتصف به هذه المراحل الثلاث أنها مكنت الذكاء الاصطناعي من إتقان المحاكاة بمعناها الاستنساخي. وإذا كان أفلاطون برؤيته المثالية قد حجَّم القدرة التخييلية للعقل البشري حين اعتبر أن كل ما يبدعه هذا العقل له صورة طبق الأصل في عالم يوتوبي خالص، فإن أرسطو برؤيته العقلانية وجد أن للعقل أن يحاكي الواقع كما هو أو كما كان أو كما ينبغي أن يكون.

وبهذه الاحتمالية تكون قدرات العقل في التخييل غير محددة بالمنطق وحده، بل بما هو غير منطقي أيضا. وهذا ما لا تستطيع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي القيام به لأنها مقيدة بالمنطق. ويحاول علماء الحاسوب أن يجعلوا هذه التكنولوجيا تحاكي عمل العقل البشري في ما يسمى علم الأعصاب كفرع من علوم السبرانية لكنهم يصطدمون بالمخيلة التي لا منطق تعمل على وفقه ولا حوسبة تماثلية تحاكي عمل الجهاز العصبي وما فيه من ادراكات وما له من استجابات. ومن هنا نفهم لمَ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي أفعال الإنسان فيكون أداة يستعين بها العلماء والدارسون، ولمَ لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحاكي المخيلة التي هي داينمو الأدب والفن وأساس الإبداع، وهو ما يحصل في كل مراحله وسيحصل في مراحل قادمة. ومن ثم يعجز الذكاء الاصطناعي عن أن يبتكر تقانة سردية او شعرية أو أن يضع نظرية نقدية جديدة.

المحاكاة إذن هي أساس ما نراه من قدرات يظهرها الذكاء الاصطناعي، وهذا ما ينبغي أن نضعه في بالنا ونحن نتعامل معه، مدركين أن قدراته هي خلاصة عمليات الاستخلاص للبيانات المتراكمة في الانترنت على مدى العقود الماضية. وقد يُحسن استخدامه فيسهل على الإنسان أداء أغراضه بدقة وسرعة غير اعتيادية. وقد يُساء استعماله لأغراض تتنافى وأخلاقيات التعامل مع الذكاء الاصطناعي.

ومن يرد من الذكاء الاصطناعي كتابة قطعة سردية أو شعرية أو نقدية، فكأنما هو يستعين بالدينامية العصبية للبرمجيات الحاسوبية كي تحاكي آلاف وربما ملايين النصوص التي لها علاقة بما يريد البحث فيه، لكنه لن يقع على جديد، لأن العقل البشري يتضمن عمليات أخرى نفسية وذاتية، لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها.

هذا إلى جانب أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي علمية منطقية حسب، ولا بد من وجود وسيط بشري كي يؤدي الذكاء الاصطناعي وظائفه المطلوبة منه. ومن دون هذا الوسيط لن تتمكن أقوى برامج الذكاء الاصطناعي أن تعمل من تلقاء نفسها.

من هنا يتضح الوهم في التخويف من منافسة الذكاء الاصطناعي للأديب الموهوب، تقول مارجريت بودين إن الذكاء الاصطناعي(ليس الكأس المقدسة؛ وإنما هو حيل برمجية ذات أغراض ما زالت تمثل تحديا.. الذكاء الآن حلم لمن يريد العون والكفاءة بما يجعل المسائل أسهل من خلال الاستدلال والتخطيط) ومن المهم التفريق بين شبكة الويب وشبكة الانترنت؛ فهذه الأخيرة اختراع ليس بالجديد وعرفها العرب منذ تسعينيات القرن الماضي وعرفناها نحن العراقيين بالعقد الأول من هذا القرن على اثر الغزو الأمريكي لبلادنا وانتهاء الحصار الشامل علينا. أما شبكة الويب فهي اختراع موجه للمستقبل ومعه سيتحسن البحث الترابطي الموجه بالآلة بوجه عام ومحركات البحث مثل جوجل وبرامج معالجة اللغات الطبيعية بوجه خاص.

وتذهب مارجريت بودين إلى ان ما تواجهه شبكة الويب من معضلة عالمية يتمثل في محاكاة فهم البشر للصور والكلمات لأن الإنسان يقوم بعمليات عقلية لا يذكرها صراحة حين يقوم بها، مما تختصره مفردة (السلوك) تماما كالنمل الذي يعمل على وفق آلية لا تعلم فيها ولكنها قائمة وموجهة.

وبرأينا، فان ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاته هو هذه الغريزة، لأن الحس المفترض أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتمتع به هو بالعموم محدود للغاية. هذا ما تؤكده أبحاث علم النفس المعرفي. والى اليوم لم يثبت لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تنمذج المجالات البشرية المتعلقة بالإبداع وبخاصة الإبداع اللغوي الذي أساسه الكلمات ومن ذلك طبعا الأدب والنقد.

وما يفعله أنصاف الأدباء وأشباههم من إثارة زوابع بين الفينة والأخرى تشكك وتخوف، إنما هو محض هراء ويكشف عجزهم عن أن يحققوا او يثبتوا شيئا في عالم الأدب، سوى أن يجدوا في الذكاء الاصطناعي التعلة التي عليها يعلقون إخفاقاتهم وكوسيلة بها يثبطون عزائم غيرهم ويوجهون سهامهم إلى المبدعين ذوي العطاءات الخلاقة والانجازات المبتكرة.

نقول إن تطبيق جات جي بي تي(ChatGPT) بأنواعه لن ينفع هؤلاء الأنصاف والأشباه في أن يكتبوا جديدا غير مسبوق، بل سيكتبون ما هو مكرر ومعاد، وسيكون مملا لا يقبله الذوق السليم والحس الواعي بما في فن القصة والرواية وعالم القصيدة من اتجاهات وأساليب وأجناس أدبية قد ينجح الذكاء الاصطناعي في نمذجة قوالبها نمذجة خوارزمية لكنها تظل بلا روح لافتقارها إلى التنظيم الذاتي والتجديد الإبداعي. فالذكاء الاصطناعي غير مصمم لان يبتكر ما لم يبتكره القصاصون والروائيون لان أساس عمله – ونكررها للتوضيح -هي المحاكاة الاستنساخية وليس المحاكاة التوليدية.

وما ينطبق على مجال الأدب والنقد ينطبق على مجالات إبداعية أخرى ومنها الترجمة، إذ على الرغم من تنوع التطبيقات فإنها بالمجموع آلية لا روح فيها وغير قادرة على تعيين بنية الجملة النحوية والصرفية من بنيتها السياقية الأدبية وما تحتاجه من مترادفات تخرج عن المعنى الحرفي إلى معنى استعاري. مما يستطيعه المترجم بإحساسه النفسي وإدراكه المبني على تراكمات وعي مهذب ومشذب بالدربة والخبرة.

وعلى مستوى الفن كالرسم او الموسيقى او التشكيل والكرافيك، فان مصممي البرامج يسعون إلى تحسين المعالجات الحاسوبية وتطويرها غير أن نسبة نجاح هذه المعالجات ليست بمستوى الطموح في ما يتعلق بالإحاطة بالدلالات والسياقات والمفاهيم والتراكيب.

وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادر باستعمال برامج مثل SAM وBAOBABو plans وغيرها، على توليد قصص خيالية ترسم مستقبلنا القادم بسرد اصطناعي متعدد التخصصات فذلك اعتمادا أيضا على محاكاة ما منشور في هذا المجال من قصص وروايات وسيناريوهات أفلام وبتوجيه بشري لكن من دون ان يأتي بشيء جديد مبتدع خلّاق دفعة واحدة. ذلك ان الأعمال الأدبية الأصيلة هي مثل البذرة تبقى قابلة للتجدد زمانا ومكانا لكن من دون أن تفقد أصالتها. وتبقى القدرة على إنتاج الأفكار المثيرة والمدهشة وغير المسبوقة والأصيلة سمة تميز العقل البشري ومخياله. وهذا بالنسبة إلى علماء الحاسوب تحد كبير وشيء غامض لا تستطيع تجاربهم على الآلة الحاسوبية ان تكتشف أسراره وشفراته.

ويدعونا هذا العيب في الذكاء الاصطناعي لأن نتساءل هل الذكاء الاصطناعي ذكاء فعلا؟ والجواب لا يعلمه احد على وجه يقين، لكن ما هو مؤكد ان هذا الذكاء لن يرتقي إلى مستوى الإنسان في التفكير الواعي المدرك بالحواس والمولد للإبداع. تؤكد ذلك الروبوتات المصممة للتفاعل عاطفيا مع الأطفال وكبار السن او ما يسمى(المربية الروبوت) إذ لم تتضح دقتها في تحليل تعابير الوجه ورصد الانفعالات والاستجابة إليها.

وليس من وراء تهويل مستقبل الذكاء الاصطناعي وانه سيكون مصدرا للتزييف والتلاعب سوى صناعة الوهم. الأمر الذي يحتاج إلى التوعية والتثقيف ومحو الأمية الرقمية وتعزيز التفكير النقدي بين أوساط المتعلمين لاسيما الناشئة الذين يتصورون أن الذكاء سيغنيهم عن التعلم واستعمال الفكر.

وما دام الذكاء الاصطناعي مصدرا لكل هذا مما يقع تحت باب التزييف العميق deep fake، فان من المهم أيضا بناء قواعد لكشف وتحليل مصادر هذا الذكاء. وفي ما يخص الأدب، يكون مهما تشكيل فريق عمل لرصد النصوص بقصد فرز المحتوى الذي أنتجته الآلة عن المحتوى الذي أنتجه البشر، ومعرفة مواضع التلاعب والتضليل والتزوير والسطو باستعمال أدوات provenance وبالإمكان إشراك جهات متخصصة من أدباء وأساتذة حاسوب ونقاد وأكاديميين ومشرفي منصات ومهندسي تقنيات ومصممي برامج في عمليات الفرز والشفافية والتعليم والتوعية بالعالم الرقمي.

إنّ خلاصة ما نريد تأكيده هو أن ثمة مسائل واعتبارات أخلاقية ينبغي وضعها في الحسبان عند استعمال الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الدعاة سيستمرون في محاولاتهم اتخاذ الذكاء الاصطناعي سبيلا للنيل من الخلق الابداعي، ولكنهم لن يكونوا قادرين على أن يأتوا ببرهان يؤكدون من خلاله أن الذكاء الاصطناعي دلهم على تقانة سردية جديدة او مكنهم من بلوغ نهج شعري أو نقدي مبتكر. ولهذا سيفشلون بمقاييس الفعل الإبداعي الذي لا تجاريه أعقد الأجهزة الحاسوبية تركيبا وأكثرها ذكاء.

ونختم مقالنا برأي الجواهري الكبير حين سئل عند هبوط أول إنسان على القمر عام 1969 وجلب صخورا منه: كيف سينظر الشعراء الى القمر بعد أن تأكد أنه صخور لا غير؟ فأجاب:

(سيبقى قمر الشعراء وإن ديس بأقدام العلماء) تأكيدا لحقيقة أن الخيال هو أساس الأدب والفن ومنذ ذلك الحين– هبوط ارمسترونغ على القمر – والى اليوم والشعراء يتعاملون مع القمر كما تعامل معه شعراء الجاهلية أو الشعراء قبلهم أو بعدهم.

  كتب بتأريخ :  الأحد 30-06-2024     عدد القراء :  213       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced