في مرات كثيرة أجد نفسي أفضل الحديث عن شخصيات ساهمت في تنوير عقول العراقيين .. وأسباب الحديث عن شخصيات بأهمية الجواهري وجواد علي وهادي العلوي وعلي الوردي وإبراهيم كبه ونزيهة سليم ، أجدها مسؤولية وطنية للحفاظ على ذكرى هذه الرموز المضيئة ، وتذكير الجيل الجديد بأن هذه البلاد لم تنجب الفاشنستات فقط ، ولا متنهزي الفرص وأصحاب نظرية تقاسم الكعكة العراقية وإنما صورة العراق الحقيقية تكمن فيمن يمثله أحسن تمثيل، وكان واحداً من هؤلاء الراحل علي الوردي الذي أتمنى أن يتم تحويل بيته إلى متحف ، وأن تقدم وزارة الثقافة كتبه لجمهور القراء بأسعار زهيدة ، لتقول لهم هذا هو تاريخكم الفكري والثقافي، قبل أن تهجم عليكم "كوامة" العشائر.
حاول العلامة علي الوردي أن ينشر ثقافة مضادة لاثنين، وعاظ السلاطين وشيوخ الطائفية.. لكن كلاهما فيما بعد كان وراء محاربته، لأنه حذّر في كتابه "وعاظ السلاطين" من أن يؤمن الناس بأن الحــلَّ لأزمات البلد هو تحويل الشعب إلى قبائل، كل منها تبحث عن مصالحها.
أتذكر أنني حضرت واحدة من من أبلغ محاضرات الراحل الكبير في منتصف الثمانينيات وفيها قدم بكل جرأة وصفاً للحال الذي كان يمر به العراق آنذاك ولا يزال يمر به .. قال الوردي إن من يدرس تاريخ الدعوة المحمدية جيدا سيجد أن انتشار الدعوة وإيمان الناس بها لم يتأت بسبب الأفكار التي طرحتها الدعوة فقط، وإنما كان الدافع الأول لإيمان الناس واعتناقهم الدين الإسلامي هو سيرة القائمين على الدعوة، وعلى رأسهم النبي فمحمد "ص" ، كانت صفته الصدق والأمانة، والذين آمنوا به في بداية الدعوة عُرف عنهم الاستقامة وحسن السيرة ، فكانوا قدوة صالحة للناس في سلوكهم اليومي ، وأضاف الوردي بكل صراحته "اليوم تحول القدوة إلى سارق وكاذب ومخادع فماذا تنتظرون من الناس ؟ " صرخة علي الوردي الجريئة هذه؛ دفعت سلطة البعث ومعها القوى العشائرية والدينية إلى أن تناصبه العداء، لكن المفكر الكبير لم تشغله مكرمات السلطة فقد مضى في طريقه يقدم أنموذجاً للمفكر الحر..
ما يجعل الوردي، وهو ينحاز إلى المواطن البسيط المبتلى بفرسان الطائفية ووعّاظها، يضيف إلى قدراته كعالم اجتماع ميزة أخرى هي الجمع بين المثقف ورجل التنوير. وبين التعرف على خزعبلات التاريخ الذي يصر الآن بعض الساسة على أن نبقى نعيش فيه ولا نغادر حوادثه، وبين المستقبل الذي لا يمكن الدخول إليه بلباس طائفي وعقول تعيش في القرن الأول الهجري.
أيها السادة : العراق بحاجة إلى صرخة شبيهة بصرخة علي الوردي لأن الشعوب لا تذهب إلى المستقبل ومستنقعات الفساد والطائفية تحيط بها من كل جانب وتظهر إلى العلن في الفضائيات.