ما كان الطموح الفردي المحاصر في أزمنتنا المأزومة أكثر من أن نزدهر بأنفسنا، ونكون بجهدنا ونتصدى لفهم معضلة الوجود والمعنى والغاية لنلامس جدوى عبورنا في الحياة.
أدركت مبكراً أن كينونتي تتحدد بالانصراف الكلّي للكتابة؛ لكن،كلما تقدمت خطوة أعاقتني الأعباء الدنيوية التي تكبل النساء؛ فأتراجع عن بلوغ تلك الكينونة المرتجاة.لم أستسلم، لبثت أدور في المتاهة تساندني القراءاة وشهوةُ البحث وأحلامي الشاسعة؛ لكنها للأسف كانت تعزز انغلاق المتاهة؛فلا علامات ارشادية توجّهُ الخطى.لا شيء سوى الانغمار في القراءة دونما توقف أو مهادنة وأنا أواجه مجتمع السبعينات بالتزاماته الصارمة وتطلعاته الفوضوية وهو يتفتح لاجتناء ثمار الحياة والترحال بعد تأميم النفط. النفط أخونا وغريمنا، راعينا وقاتلنا ومُشْعِلُ حروبنا. في تلك الفسحة من الزمن الملتبس توهمتُ أن الحياة أسلس قياداً والطموحات ممكنة التحقق.
كان بيتنا مفتوحاً لاجتماع أسَرٍ من أصدقاء وأقارب، رسامون وزوجاتهم وزميلات عمل، مخرجو مسرح وزوجاتهم يناقشون أعمالهم في أمسياتنا. كانت فرصةً للتمتع بعرض أفلام أورسون ويلز وفلليني وايزنشتاين والافلام الوثائقية المتوفرة حينها؛غير أن معظم الصديقات كن يضجرن من النقاشات الجادة وينصرفن لممارسة النميمة والثرثرة والهزل، وحدي ألوذ بالصمت وأنشغل بدور المضيفة الكريمة وفي صمتي أتشبث بأمل غامض سيقودني إلى كينونتي الحرة.
لم أستسلم، أمسكت رسن الحياة بقوة، تنفست الصعداء وأعلنتها بجرأة على نحو مفاجئ: لا يمكنني أن أواصل نمط الحياة هذا، لا يمكنني القيام بكل هذه الادوار المرهقة:أن أكون كائناً اجتماعياً وكاتبة وطباخة وزوجة وأما ومدرّسة، أنتظر من عائلتي أن تتفهم أسبابي في اتخاذ قراري، أعلم أنه خيار صعب ضمن تقاليد مجتمعنا، قررت أن أختار العائلة والكتابة حسب وأتخلّص من الامتدادات الاجتماعية المرهقة، قلتها بوضوح:سأتوقف - أو بالأحرى نتوقف نحن - عن استقبال الأسر الصديقة والأقارب إلا في مناسبات متباعدة نتفق على تحديدها، أعلم أنني سأضعكم في عزلة لا ترتضونها، وأعلم أن ذلك سيكون مدعاة لغضب الجميع واستياء آخرين سيعدّون هذا بتراً لأواصر الصداقة والقربى. أنا لا أملك غير حياة واحدة أحقق فيها ما هيأت نفسي له: الكتابة. حلّت برهة صمت مكتنفة بالحيرة، ثم جرى نقاش عقلاني مديد أدّى إلى موافقة ملزمة. لقد فعلتها. نبتت لي لحظتها عشراتُ الأجنحة التي منحتني قدرة التحليق بعيداً عن كل ما يعيق انتمائي لأحلامي.
سُحِرْتُ طويلاً بقراءة الفلاسفة الوجوديين كمعظم شباب جيلي، ثم انعطفت لقراءة التراث العرفاني والمعتزلي، انتشلتني النصوص الصوفية ومناجيات المعتزلة من تبددي، ثم انتشيتُ بالعُقَد الدرامية في (المسرحيات العالمية) بترجماتها المصرية التي كنا نحرص على اقتنائها شهرياً، وألهمتني معارض الرسم الاوروبي المعاصر التي كانت تقام في المتحف الوطني للفن الحديث فكرة التحرر من القوالب وتحطيم المثال الجاهز في اللوحة والنص والعيش.كانت عوناً لي لتحطيم المرجعيات القارّة ومغادرة الأنماط التقليدية في الفن والادب.التمرد على تلك الأسس لم يكن سهلاً؛ فقد اضطرب المرأى واستدعى الامر بعض التوازن والتوقف برهة لتلمس معالم الطريق.
كنا نرتاد أسابيع الافلام الاوروبية والروسية التي توالت عروضها في بغداد السبعينات: فيلم (ديرسو أوزولا 1975) الروسي الذي أخرجه المخرج الياباني الساحر (أكيرا كوروساوا) منحني فرصة ثمينة للتأمل والاستغراق في مزاج عرفاني صافٍ، ثمة في الفيلم علاقة حميمة بين الانسان والطبيعة تحقق التكامل بينهما وتكشف جماليات الطبيعة وحمايتها عبر التعاضد البشري الذي أفسدته الحضارة الحديثة بعجرفتها وأنانيتها ونهمها اللامحدود لاستهلاك موارد الارض.خفّف المزاج الشعري لكوروساوا وجمال الطبيعة وحكمة الصياد العجوز ومعارفه الفطرية من غلواء موقفي المتأرجح إزاء حرية الفن والأدب، وأعادني إلى رشدي لاختبار علاقتي العريقة بالطبيعة كسليلة للأنهار والبساتين.
بين حين وحين كنت أغرق في المتون السحرية لأبي حيان التوحيدي وابن حزم الاندلسي والمتون العقلانية لابن رشد وتنعشني سخرية الجاحظ الفاتنة، ترنحت طويلاً بين متعة البلاغة والكنايات وكثافة مقولات المتصوفة، حتى أثقلتني فيوض اللغة وانهماراتها، ثم اكتشفت بأنني أصبحت كائناً لغوياً مهووساً بجماليات لغته التي تطغى على وضوح الافكار، عندها توقفت لألتقط أنفاسي، واخترت أن أغتذي بالالهام الذي أغرتني به أبيقورية النصوص والملاحم الرافدينية ورواقية المعتزلة. احتكمتْ لغتي إلى الموسيقى الجوانية في التراث العرفاني فجمعت بين نزوعاتي اللغوية الخاصة وأفكاري المتمردة في وعاء قصصي القصيرة ونصوصي المختلفة.
لي عودة قادمة الى هذه الاستذكارات.