ربع قرن انقضت في مهنة التعليم الجامعي عاصرت فيها جهابذة التعليم كذلك الدخلاء عليه حتى تشكلت عندي قناعات راسخة قد تتوافق مع قناعات الكثير من هم في المهنة نفسها. او قد تتقاطع باختلاف الجانب القيمي عند هذا او ذاك. ولعل اهم تلك القناعات هي ان النزاهة الاكاديمية التي كنت اتصورها الحصن المنيع الذي يميز جامعاتنا عن غيرها قد اخذت في التصدع في الآوانة الاخيرة. وحلت بدلا عنها اعراف وتقاليد جديدة مؤطرة بمفهوم (العلاقات الشخصية) التي بدأت تطغى على ما سواها حتى لم يعد الجانب العلمي او التميز الاكاديمي هو ما يضع الاستاذ الجامعي في الموضع الذي يستحقه من التقدير والتبجيل.
بل لا ابالغ اذا اقول ان ضريبة التفرد العلمي غالبا ما تجعل أمثال هؤلاء من العلماء مهمشون ومحاصرون. بل قد يتطور الامر الى تعمد الاذال بتنصيب من هم دونهم رؤساء عليهم. وفي هذا السياق سوف نركز على الجوانب التي تراجعت فيها القيم والثوابت العلمية لتحل محلها العلاقات الشخصية كحاكم مستبد على ماسواها. ومما لاشك فيه ان تسليط الضوء على هذه الممارسات لايعني باي حال من الاحوال التقليل من القيمة العلمية للجامعات العراقية، بقدر ماهي محاولة اصلاح جوهرية لمظهر من المظاهر السلبية التي بدأت تتوسع وتنتشر مثل النار في الهشيم.
ولعل وضع جامعاتنا في مقارنة مع نماذج عالمية يمكن ان يمنحنا فرصة اصلاح مايمكن اصلاحه. بالتالي سوف نختار بعض المظاهر والممارسات التي بات للعلاقات الشخصية القول الفصل فيها دون النظر في اي اعتبارات اخرى. ولقد اخترت هذه الامثلة لاهميتها وتاثيرها المباشر في النزاهة الاكاديمية على المدى الطويل. وهذا لايعني عدم وجود ممارسات اخرى تتحكم فيها العلاقات الشخصية بل على العكس اكاد اجزم ان العلاقات الشخصية (رفض او قبول) هي العامل المؤثر الاول والاخير في تسير الامور. على سبيل المثال موضوع التكليف لشغل المناصب الإدارية داخل الجامعات والكليات يعد حالة بارزة يظهر فيها تاثير العلاقات الشخصية. حيث غالبا ما يتم التكليف على أساس علاقات الشخص بصناع القرار وليس على اساس الجدارة، ولعل التأثير المباشر (لممثلي الاحزاب) كما يشاع داخل المؤسسات التعليمية هو مايجعل تاثير العلاقات الشخصية بهم للحصول على التزكية لشغل هذا المنصب او ذاك مطلب البعض من الاساتذة. اما الترقيات العلمية فهي ايضا مجال اخر يظهر فيه دور العلاقات الشخصية حيث يمكن ان تتراجع النزاهة الأكاديمية بشكل خطير عندما يصل الامر الى ان تستمر الترقيات إلى رتبة أستاذ مساعد لسنوات، في حين يمكن تسريع الترقيات إلى رتبة أستاذ في غضون شهر، على الرغم من الإجراءات المعقدة المرتبطة عادة بمرتبة الاستاذية. هذا التناقض يسلط الضوء على قوة وتاثير العلاقات الشخصية في تيسير الامور. اما موضوع المناقشات العلمية والإشراف على الرسائل العلمية فحدث فيه دون حرج اذ يعد الإشراف على الرسائل العلمية وتشكيل لجان المناقشة من المجالات المثيرة للجدل بشكل خاص حيث تسود العلاقات الشخصية بين الاساتذة ورئيس القسم العلمي على اي اعتبار علمي اخر. أولئك الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع رئيس القسم العلمي، غالبًا ما يستفيدون من نتائج إيجابية حيث يتحاح له اختيار من تربطه معهم علاقات طيبة يمكن ان تؤثر في قرار منح الدرجة لصالح طلابه. وعلى العكس من ذلك، قد يواجه الأساتذة الذين يفتقرون إلى مثل هذه الروابط محاولات متعمدة لتقويض إنجازاتهم الأكاديمية. ولعل موضوع تمديد خدمة الاساتذة من المحالين على التقاعد والذي يفترض ان يخضع لشروط وضوابط محددة تنطبق على الجميع، خضع ايضا للعلاقات الشخصية حيث يتم عن عمد تعقيد اجراءات المشهود لهم بالكفاءة مقابل تسهيلات كبيرة لانصاف العقول.
وهذا التلاعب بالعمليات الأكاديمية لتحقيق مكاسب شخصية يؤدي إلى تآكل المبادئ الأساسية للعدالة والجدارة. التي يجب ان تكون هي السمة التي تميز المؤسسات الاكاديمية عن سواها. هذا جزء يسير من الممارسات الاكاديمية التي تتحكم فيها العلاقات الشخصية في جامعاتنا وفيها غيرها الكثير الذي لايسع المقال لذكره. وفي هذا السياق نحاول ان نتعرف على وجهات نظر عالمية حول النزاهة الأكاديمية واهميتها في نماذج مختارة املك عنها المعلومات الضرورية حيث تؤكد العديد من الدول على أهمية النزاهة الأكاديمية والتميز. على سبيل المثال، في دول مثل فنلندا وكندا وألمانيا، يولي المجتمع الأكاديمي قيمة عالية للإنجازات القائمة على الجدارة والعمليات الشفافة اذ غالبا ما يتم منح المناصب الأكاديمية والترقيات بناءً على تقييمات شديدة للمساهمات العلمية، مما يضمن عدم تداخل العلاقات الشخصية مع التميز الأكاديمي. وتجدر الاشارة الى ان فنلندا من الدول التي تشتهر الجامعات فيها بالتزامها بالنزاهة الأكاديميةبطريقة مثاليةللدرجة التي تتمتع فيها عمليات التعيين والترقية بالشفافية العالية، مع التركيز القوي على مخرجات البحث والتميز في التدريس. وتضمن آليات مراجعة الأقران تقييم الإنجازات الأكاديمية بشكل عادل، مما يعزز ثقافة التميز والجدارة. كذلك الحال في كندا التي تلتزم الجامعات فيها بمعايير محددة للترقيات الأكاديمية والتعيينات الإدارية. بما في ذلك تأثير البحث، وفعالية التدريس، والمشاركة المجتمعية، يقلل هذا النهج من تأثير العلاقات الشخصية ويعزز ثقافة التميز الأكاديمي. ومثال اخر في ألمانيا التي تتميز الجامعاتها بتمسكها بالقيم والمبادئ الأكاديمية. إن عملية الحصول على المناصب الأكاديمية والترقيات منظمة للغاية، مع مراحل متعددة من المراجعة المستقلة. ويضمن هذا النظام أن يتم اتخاذ القرارات على أساس الجدارة العلمية وليس على أساس العلاقات الشخصية. امام هذه النماذج العالمية التي تؤكد على اهمية ابعاد العلاقات الشخصية عن الممارسات الاكاديمية ولغرض استعادة وتعزيز النزاهة الأكاديمية في الجامعات العراقية، ينبغي النظر في التوصيات التالية:
*تطبيق معايير شفافة وموحدة للترقيات الأكاديمية والتعيينات الإدارية وتشكيل لجان المناقشة. والحرص على أن هذه العمليات مبنية على تقييمات موضوعية للإنجازات الأكاديمية.
*تطوير أنظمة قوية لمراجعة الأقران لتقييم مخرجات البحث وفعالية التدريس والمساهمات العلمية الأخرى. إشراك مراجعين مستقلين من خلفيات أكاديمية متنوعة لضمان التقييمات العادلة.
*تشجيع الجامعات على تقدير ومكافأة العلماء على أساس مساهماتهم في المعرفة والتعليم بدلا من العلاقات الشخصية.
*إدخال تدابير المساءلة لمعالجة حالات المحسوبية من خلال إنشاء هيئات رقابية مستقلة للتحقيق ومعالجة الشكاوى المتعلقة بسوء السلوك الأكاديمي.
*تعزيز التعاون والتبادل الدولي لتعريف الباحثين العراقيين بأفضل الممارسات العالمية في مجال النزاهة الأكاديمية. إن التعلم من الدول التي تعطي الأولوية للجدارة يمكن أن يساعد في غرس قيم مماثلة داخل المؤسسات العراقية.
ختاما نعتقد ان الارتقاء بجودة التعليم في الجامعات العراقية يعتمد على استعادة النزاهة الأكاديمية وإعطاء الأولوية للتميز العلمي على العلاقات الشخصية. وذلك من خلال اعتماد عمليات شفافة، وتعزيز آليات مراجعة الأقران، وتعزيز الجدارة، وتنفيذ تدابير المساءلة، وتشجيع التعاون الدولي، تستطيع الجامعات العراقية تعزيز مكانتها والمساهمة في المجتمع الأكاديمي العالمي. إن التمسك بالقيم الأكاديمية لا يضمن مصداقية المؤسسات فحسب، بل يعزز أيضًا بيئة يمكن للعلماء أن يزدهروا فيها ويقدموا مساهمات ذات معنى للمجتمع.